السهرة الثالثة للمهرجان الدولي
من إسطنبول إلى طرابلس مروراً بعنابة.. المالوف يصدح في قسنطينة

- 130

من قلب قسنطينة، عاصمة المالوف الأندلسي، ارتفعت الأنغام، سهرة أوّل أمس، لترسم فسيفساء موسيقية فريدة جمعت بين الأرابسك التركي والروح الأندلسية الجزائرية، وبين أصوات عنابة وطرابلس والمهجر. لم تكن السهرة الثالثة من المهرجان الدولي الثالث عشر لموسيقى المالوف مجرّد ليلة فنية، بل موعداً مع التاريخ والذاكرة، حيث التقت تجارب موسيقية متباينة في ظاهرها، لكنّها توحّدت في لغة العشق والحنين. على ركح "محمد الطاهر فرقاني"، توالت العروض لتؤكّد أنّ المالوف، بما يحمله من أصالة وعمق روحي، ما يزال قادراً على تجاوز الحدود الجغرافية وإشعال القلوب من جديد.
الأرابسك التركي يغازل المالوف الأندلسي
أطرب الأخوان حقي، سيمو وأركان، جمهور قسنطينة في المسرح الجهوي "محمد الطاهر فرقاني"، خلال السهرة الثالثة، وقدّم الثنائي التركي من فرقة "أرابسك" عرضاً موسيقياً جمع بين الغناء والعزف الروحي، وسط تجاوب كبير من الحضور.
أدى الأخوان حقي مقاطع من روائع الطرب الأندلسي مثل "لما بدا يتثنّى" و"قدّك المياس"، في مزيج فني أبرز القواسم المشتركة بين المالوف الجزائري والموسيقى التركية التقليدية. الأداء انسجم مع روح المهرجان، الذي يسعى إلى مدّ جسور التواصل بين ضفتي المتوسط عبر استحضار الأبعاد الروحية والوجدانية للموسيقى الأندلسية.
وتشتهر فرقة "أرابسك" بتقديمها مقطوعات مستوحاة من الموسيقى الصوفية والشعبية التركية، ممزوجة بآلات شرقية مثل الناي والدف، ما أضفى على سهرة قسنطينة طابعاً وجدانياً عميقاً استلهم أجواء جلال الدين الرومي والأغاني الشعبية التركية التي تحاكي الحب والحنين.
فيصل كاهية.. صوت عنابة الأصيل
في نفس السهرة، كان الموعد مع نجم المالوف العنّابي فيصل كاهية، الذي أشعل المسرح بحنجرته الدافئة وأدائه العذب. استقبله الجمهور بتصفيقات حارة وهو يفتتح وصلته بباقة من أشهر النوبات، بينها مقطوفات من الذيل والمصدر والبطايحي مثل "يا ناس متى اعذروني"، "يا ساقي اسقي حبيبي"، و"ماذا نعيت".
أضفى كاهية لمساته الخاصة على الأداء، مؤكّداً تجربته الطويلة وقدرته على التفاعل مع الجمهور، قبل أن يتسلّم تكريماً رمزياً من محافظة المهرجان تقديراً لإسهامه المتواصل في الحفاظ على تراث المالوف ونقله للأجيال الجديدة.
انتصار عطية.. بعث المالوف الليبي النسائي
الحدث الأبرز في السهرة الثالثة كان ظهور المغنية الليبية انتصار عطية، التي أعادت إحياء الصوت النسائي في المالوف الليبي بعد أكثر من ستة عقود من الغياب. أطلت مرتدية "البدلة الكبيرة" التقليدية، بمرافقة فرقة "المقام" بقيادة أحمد الحافي، وقدمت نوبتين من أعرق النوبات الليبية "قلبي يهوى معيشق" بطبع رصد الذيل، و"يا أهل الحمى" بطبع المزموم.
جاء حضورها بمثابة خطوة جريئة تعيد الاعتبار لدور المرأة في حفظ التراث الأندلسي، بعدما ظلّ حكراً على الأصوات الرجالية لعقود. أداؤها أضفى أبعاداً وجدانية جديدة، وحوّل مسرح قسنطينة إلى جسر يربط طرابلس بتونس والجزائر، مؤكداً أن المالوف لغة جامعة تحتضن كل الأصوات.
فوزي عبد النور.. سفير المالوف بالمهجر
مسك ختام السهرة الثالثة كان مع الفنان فوزي عبد النور، أحد سفراء أغنية المالوف خارج الوطن. خصّص وصلته لنوبة الرمل الكبير، وأطرب الحضور بمختارات مثل "جادك الغيث"، "سلي همومك"، "يدوم هناكم" و"مالو حبيبي".
بصوته الشجيّ، قاد عبد النور الجمهور في رحلة بين المقامات الأندلسية، مستحضراً علاقة خاصة جمعته بالحاج محمد الطاهر الفرقاني الذي يعتبر نفسه تلميذاً وفياً له. كما لم ينسَ صديقه الفنان سليم الفرقاني، طريح الفراش، فدعا الجمهور للترحم والدعاء له،في لحظة إنسانية مؤثرة لاقت وقوف الحاضرين احتراماً.
تكريم أيقونة المقاومة الفنية إبراهيم العموشي
ولم تخلُ السهرة من لحظة وفاء خصصها المهرجان لتكريم الفنان الراحل إبراهيم العموشي، أحد أبرز رموز المالوف وملحن نشيد "شعب الجزائر مسلم" الذي شكّل خلال الاستعمار أيقونة وطنية ومصدراً للمقاومة الروحية.
العموشي، المولود في قسنطينة مطلع القرن العشرين، أسس جمعية "الشباب الفني القسنطيني" عام 1925، وأسهم في بعث النشاط الموسيقي بالمدينة. تكريمه هذا العام جاء ليعيد الاعتبار لمسيرة فنان جمع بين النغمة الأندلسية والروح الوطنية، مثبتاً أن المالوف ليس مجرد فن للمتعة، بل وعاء للذاكرة والكرامة الوطنية.