قراءة للعمل المشارك في أيام الشارقة للمسرح
عرض "جي.بي.أس".. بوصلة اتجاهات تقود إلى المتاهة

- 619

بالرغم من أنها مخصصة في الأساس للعروض المحلية داخل المسابقة الرسمية وعلى هامشها، فإن أيام الشارقة المسرحية في دورتها الثلاثين من 29 فبراير حتى 6 مارس، تأخذ على عاتقها كذلك الاحتفاء بالعروض العربية المتميزة، التي اجتهد صُنّاعها في كسر إطار العلبة الإيطالية التقليدية، وطرح مواضيع مسرحية مغايرة، تتلاقى فيها فنون عدة؛ درامية وموسيقية وتشكيلية، في تراكيب بصرية مبهرة.
في هذا الإطار، اختير العرض الجزائري "جي.بي.أس"، ليكون أول عروض قصر ثقافة الشارقة في افتتاح أيامها المسرحية 2020، وهو العرض الفائز بجائزة مهرجان المسرح العربي. وقد تجسدت فيه سمات المعالجات المسرحية المنحوتة الناضجة، والأفكار المبتكرة الوامضة والمعبّرة عن قضايا الإنسان التائه الممزق، المغترب عن ذاته وعن عالم لم يعد يشبهه، إلى جانب انفتاح الأداء التمثيلي على نوافذ الحركة وفلسفة الجسد، وتناغم عناصر المسرح ومفردات الفنون الأخرى المتنوعة، والاستغناء عن الكلام بلغة أخرى، قوامها الإشارات والصيحات وأصوات الآلات والروبوتات التي حلت محل الكائنات الآدمية المنقرضة.
وأوحى عنوان عرض "جي.بي.أس" من إخراج محمد شرشال وسينوغرافيا عبد المالك يحيى وإضاءة شوقي المشاقي وموسيقى عادل لعمامرة وتمثيل مجموعة من الشباب، بأن ثمة بوصلة إلكترونية هادية إلى اتجاهات محددة، لكن الصور البصرية السريعة المتتالية بتكنيك سينمائي والمشاهد المبتورة والشخصيات المبتسرة مثل تماثيل نحتية التي لا تنمو إنسانيا في واقع تسوده الميكنة والعلاقات المتآكلة بفعل هجمات الزومبي والوحوش الضارية، تقود كلها إلى خارطة المتاهة بامتياز، التي تكون خطوطها ونقاطها هي إحداثيات العالم الجديد السرابي، وجينات البشر المعدَّلة وراثيا.
وقصد العرض هدفه وفكرته المركزية مباشرة "البشر إن لم يقدروا على التغيير فهم والجماد سواء". وتكشفت هذه الرؤية بتصوير محطات انفراط العقد الإنساني منذ الميلاد إلى الموت؛ فالرضيع يولد مقيدا بالحبل السُّري، وبدلا من تحرره يكبر معه هذا الحبل، ويصير القيد أعظم؛ إذ تتحكم في مصيره وحركته قوى كثيرة وليست فقط أمه، وشيئا فشيئا يتحول الإنسان إلى آلة مسيّرة، وتصير المرأة المنقّبة، مثلا، مثل سيارة الدفع الرباعي، لها ريموت كونترول، وتُصدر أصواتا تحذيرية عند الاقتراب الفجائي منها من دون إذن قائدها/ زوجها.
واستعاض العرض عن الكلام المعتاد المفهوم في الحوار والحكي بلغة أخرى ارتآها أكثر دقة في التعبير عن حالة الهذيان التي وصل إليها البشر، وهي لغة الجسد المتفلسف، والحركة المحمومة والإشارات والإيماءات والحروف الدالة والتصفيق ودبيب الأقدام.
واختلطت الآهات والحشرجات بأصوات أجراس الإنذار الآتية من محطة قطار لا يأتي، ودقات الساعات، والميكروفونات الزاعقة، والطيور والحيوانات المفترسة، وتروس الآلات الحديدية، وغيرها من مفردات العالم، الذي لا مجال فيه إلا للماديات والكائنات الفضائية، المستعدة بدورها للتصادم والتحطم والتهاوي كنيازك مطفأة.
وأسهب العرض بعض الشيء في تشريح هذه التراجيديا التي سحقت عظام البشر، وجعلت مجرد أحلامهم بالقبلات الرومانسية عبثا وجنونا. وكان يمكن تكثيف مدة العرض أكثر، وحذف المشاهد المتشابهة والمتكررة، خصوصا أن العرض استغنى عن الكلام؛ بوصفه ثرثرة وشرحا غير لازم، فكان الأولى تخليص الرموز من كافة الشوائب العالقة.
وقطع عرض "جي.بي.أس" أشواطا بعيدة في تفصيل ماذا جرى للإنسان وما سيجري له، بعدما صار مرة بلياتشو، ومرة آلة، وتارة جثة، وحينا مسجونا يجري التحكم فيه بقيد الحبل السُّري والريموت كونترول، إلى آخر هذه الوضعيات التي جردت الإنسان من إنسانيته.
العرض استعاض عن الكلام المعتاد المفهوم في الحوار والحكي بلغة أخرى، تعبّر عن حالة الهذيان البشري. يبقى أن نشير إلى أن التمادي في العجائبية وخلط الصور والأوراق وتحميل الفرجة البصرية فوق طاقتها بالشخوص والكائنات الغريبة "الاختراعات" والتماثيل والأقنعة وغيرها من المفردات التشكيلية والسينمائية، جعل هناك صعوبة في تركيز المتلقي مع مجريات العمل، خاصة أن مدة عرضه طويلة نسبيا؛ أكثر من ساعة؛ بما حوّل الحبكة الكلية المتنامية إلى نثارات متجاورة أفقيا، ولعل ذلك مقصود لإحكام المتاهة، وإعلان إخفاق "جي.بي.أس" كلية.
ومع ذلك وُفق العرض في ملء فراغ المسرح بفرجة زاخمة وأجساد متراصة، تتحرك بهندسة واعية وتدريب كبير. كما نجح في توظيف عناصره وفنونه المتداخلة وفق هارموني بالغ التعقيد.
وفي ظل غياب الحديث بالكلمات لعبت الموسيقى والإضاءة أدوارا أخرى إضافية؛ حيث تحدثت بدورها بمعانٍ متباينة، تنوعت بين الحزن والخوف والقلق والهستيريا والجنون، وغيرها من الحالات التي حللت خلايا البشر شيئا فشيئا إلى أن تلاشوا تماما، ولم يبق من آثارهم إلا حقائبهم المحتفظة بأسرار الرحيل.