مهرجان تيميمون الدولي للفيلم القصير

"ضوء جديد" من قلب الصحراء

"ضوء جديد" من قلب الصحراء
وزيرة الثقافة والفنون مليكة بن دودة
  • 223
مبعوثة "المساء" إلى تيميمون: نوال جاوت مبعوثة "المساء" إلى تيميمون: نوال جاوت

من قلب الصحراء؛ حيث تمتدّ واحتها الحمراء لتمنح السماء انعكاسا يبعث الطمأنينة في النفوس وتنير دروب الأنفس، وفي لحظة فارقة في تاريخها الثقافي، افتَتحت تيميمون الدورة الأولى من مهرجانها الدولي للفيلم القصير، معلنة ميلاد فضاء ثقافي وسينمائي جديد في الجنوب الجزائري، جاء ببعد إفريقي على شرف السنغال. وحمل الكثير من الرمزية، والرؤية، والتطلّع إلى مستقبل سينمائي واعد.

بالمناسبة، أكّدت وزيرة الثقافة والفنون مليكة بن دودة، في افتتاحها للتظاهرة، أنّ احتضان تيميمون هذا الحدث، يعبّر عن رؤية الدولة الرامية إلى دمقرطة الثقافة، وجعلها متاحة في كلّ مناطق الوطن من الشمال إلى أقصى الجنوب. وقالت إنّ تيميمون لم تعد مجرّد وجهة جغرافية، بل أصبحت رمزاً لتحويل الثقافة إلى "فعل حضور" يلامس كلّ المواطنين.

وقالت الوزيرة إنّ الفيلم القصير يمثل، اليوم، فناً أساسياً، "يقول الكثير بالقليل". ويتيح للشباب فضاءً للتجريب، ووسيلةً لرواية الحكايات بعمق وصدق. وأضافت أن دعم هذا النوع السينمائي هو "واجب وطني وأخلاقي"؛ لأنّ الأمم تُقاس أيضا بما تنتجه من صور ومعانٍ وأحلام. وكشفت الوزيرة عن مشاريع ثقافية كبرى في تيميمون، أبرزها افتتاح قاعة السينما الجديدة بالتزامن مع المهرجان، وإطلاق “قصر تينركوك السينمائي” الذي كان حلماً سنة 2021، وأصبح، اليوم، فضاءً حقيقياً للتصوير والإنتاج، إلى جانب مركّب ثقافي ضخم، سيتيح لشباب المنطقة تعلُّم الموسيقى، والمسرح، ومختلف الفنون.

أرض الضوء والحكاية

وفي بُعد إفريقي للمهرجان، حيّت الوزيرة الوفد السنغالي الضيف، معتبرة هذه المشاركة خطوة عملية لتعزيز التعاون الثقافي بين البلدين، وترسيخ رؤية مشتركة تجعل من الفنّ أداة للحرية والكرامة، وتبادل الخبرات داخل القارة. وأبرزت في كلمتها أنّ السينما ليست ترفاً، بل "ضمير بصري للمجتمعات". ومسؤولية الدولة هي توفير فضاءات الجمال، والمعرفة، وإتاحة الفرصة للشباب كي يصنعوا سينماهم بثقة وإبداع. 

كما وجّهت تحية خاصة لأبناء تيميمون، والمحافظ، وكل من ساهم في تنظيم هذه التظاهرة الأولى من نوعها في صحراء الجزائر، لتختتم كلمتها بالتأكيد على أنّ تيميمون أرض الضوء والحكاية، بدأت كتابة فصل جديد في المشهد السينمائي الوطني والإفريقي. ومن جهته، ذكر والي تيميمون سونة بن عمر، أن تأسيس مهرجان تيميمون للفيلم القصير، يعكس المكانة المتنامية للولاية التي تزخر بتراث معماري وثقافي مميز، وتاريخ من احتضان تظاهرات سينمائية؛ على غرار “أيام كان جينيور للسينما”، مؤكّدا أنّ اختيار تيميمون لاحتضان أول طبعة من هذا المهرجان الدولي، لم يكن اعتباطيا، بل جاء نتيجة الإمكانات الطبيعية، والسياحية، والتراثية التي تميز المنطقة، إضافة إلى استعدادها اللوجستي، وتنظيمها السابق لأنشطة سينمائية ناجحة.

الوالي شدّد على أن الثقافة والفن عنصران أساسيان في بناء الإنسان، وأن السينما، اليوم، باتت وسيلة حضارية لنقل القيم، والتعريف بالموروث الثقافي الوطني، وفتح جسور التبادل بين الشعوب. وأشار إلى أن العالم المتسارع يجعل من الضروري تطوير صناعة سينماتوغرافية وطنية، تمتلك مقومات الاستمرارية، والتنافسية.

خطوة حقيقية لترسيخ مكانة تيميمون كقطب سينمائي

وأشار بن عمر إلى أن تنظيم هذا المهرجان يأتي منسجما مع رؤية الدولة، وعلى رأسها رئيس الجمهورية، الذي وضع السينما ضمن أولويات برنامجه، ودعم المهرجانات التي تتيح فضاءات للتجريب، والإبداع، والتبادل الثقافي، مستعرضا تعزيزات البنية التحتية الثقافية التي استفادت منها تيميمون، وأهمها تدشين قصر السينما بتينركوك كمركز وطني لتطوير السينما بعد إعادة تأهيله، وتهيئة مسرح الهواء الطلق لاستضافة العروض الفنية، وتجهيز قاعة السينما لتلبية متطلبات العروض الدولية. وأكّد أنّ هذه المنشآت ستساهم في إحياء الحقل الثقافي، وتوفير فضاءات للطاقات السينمائية الشابة.

وعرف حفل الافتتاح حضورا وطنيا ودوليا يعكس الطموح الدولي للمهرجان، حيث وجّه الوالي تحية ترحيب لضيوف الجزائر من فنانين ومخرجين ومنتجين، مشيدا بالدور الذي سيقومون به في إثراء هذه التظاهرة خلال أيامها المقبلة. واختتم الوالي كلمته بالتأكيد على أن نجاح هذه الطبعة الأولى سيكون خطوة حقيقية نحو ترسيخ مكانة تيميمون كقطب سينمائي واعد، متمنيا التوفيق لجميع المشاركين، ومشددا على أن الولاية تقف “يدًا واحدة” لإنجاح هذا الموعد الثقافي المهم.

أما محافظ المهرجان الدولي للفيلم القصير، زين الدين عرقاب، فأكّد في مستهل كلمته، أنّ الجزائر لا تحتفي بميلاد مهرجان فني جديد فحسب، بل تُطلق فضاءً دولياً للإبداع السينمائي، يوجّه بوصلته منذ البداية، نحو إفريقيا انطلاقاً من إيمان الدولة الجزائرية العميق بأن القارة ليست هامشاً للتاريخ، بل "منبع الإبداع، ومهد الفن، ومنطلق الحضارات". 

وفي هذا السياق، شدّد على أن تيميمون بأفقها المفتوح وروحها الصحراوية، أصبحت منصة، تُسمِع منها الجزائر صوت الفنان الإفريقي، للعالم. وفي حديثه عن اختيار الفيلم القصير ليكون جوهر هذه التظاهرة، قال محافظ المهرجان إنّه "الأكثر صدقاً، والأقدر على التعبير عن الحقيقة كما هي"، وأنّه الفضاء الأوّل الذي تتشكّل فيه حساسية المخرج، وتنشأ فيه المدارس السينمائية الجديدة. وأكد أن إفريقيا، اليوم، لم تعد أرضاً تُروى عنها القصص، بل أصبحت هي من يروي، ويكتب، ويصنع الصورة بلغتها، ووعيها، وذاكرتها.

القوّة الناعمة وسلاح السيادة

كما توقف عرقاب عند اختيار السنغال ضيف شرف الطبعة الأولى، معتبراً ذلك “تحية لسينما إفريقية مبدعة، ولأخوّة تربط شعوب القارة عبر التاريخ، والبحر، والصحراء”، وإشارة واضحة لحلم مشترك بقارة لا تُقصى من المشهد الثقافي العالمي.

وأبرز محافظ المهرجان في كلمته، أهمية الثقافة في الرؤية الجزائرية، واصفاً إياها بـ«القوّة الناعمة وسلاح السيادة”، مؤكّداً أنّ السينما ليست وسيلة ترفيه فقط، بل أداة لصناعة الوعي، ومقاومة النسيان، واستعادة الذاكرة ملامحها وحقها في الوجود. ودعا إلى أن يكون المهرجان موعداً سنوياً للحلم، وللصورة، وللقارة التي لا تنطفئ، مشدّداً على أنّ كلّ فيلم يُعرض في هذه التظاهرة يجب أن يُنظر إليه كنافذة على الحرية، ومنصة تُعبّر باسم إفريقيا التي تُبدع وتنهض رغم التحديات. وبهذا الافتتاح المميّز تُعلِن تيميمون عن نفسها مدينةً للسينما الإفريقية، حيث تنبض الروح الإبداعية من قلب الصحراء، وتُرسل رسائلها إلى العالم عبر لغة الصورة، والفن.

ولكون السنغال ضيف شرف الدورة التأسيسية لمهرجان تيميمون، أعرب سفير السنغال في الجزائر عن امتنانه العميق، وشرفه الكبير لتمثيل بلاده في هذا الحدث الثقافي البارز، مشيدا بالتقاليد الراسخة للأخوّة والتعاون التي تربط الجزائر بالسنغال. وتحدّث عن “الترانغا” ؛ تلك الضيافة الشهيرة المشتركة بين البلدين. وأكد السفير في كلمته الأهمية الرمزية لاختيار السنغال كدولة ضيف الشرف في هذه النسخة الأولى، مثمناً السلطات الجزائرية باسم أعلى المسؤولين السنغاليين، بمن فيهم رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة. كما أشار إلى الثروة التاريخية والثقافية لمدينة تيميمون الملقبة بـ"الواحة الحمراء"، والتي تمثّل موقعاً مثالياً لاستضافة مهرجان سينمائي، كما تربط بين جنوب الجزائر والسنغال.

واستعرض الدبلوماسي السنغالي الدور الحيوي للفيلم القصير كفضاء للحرية والإبداع والابتكار، مؤكّداً أنّه مدرسة للكتابات الجديدة، ومنصة لانطلاق الشباب المبدعين. وذكر مشاركة السينمائيين السنغاليين بمن فيهم المخرجة أنجيلي ديابانغ، وحضور أبناء السنغال في لجان التحكيم والندوات العلمية حول موضوع "السينما والمجتمعات والأقاليم". وأكد السفير على الروابط الثقافية والتاريخية القوية بين البلدين. واختتم بالتعبير عن رغبة السنغال في تعزيز التعاون السينمائي والسمعي البصري من خلال اتفاقيات للإنتاج المشترك، والتبادل في مجال الابتكار الرقمي. وقال: "ليكن هذا المهرجان وقتاً للنور والإبداع، وللّقاءات المثمرة، والتعاون المستدام".


احتفاءٌ بأيقونات السينما وتكريم صُنّاعها

في قلب الواحة الحمراء وعلى امتداد رمال الصحراء التي ألهمت مئات القصص، اختار المهرجان الدولي للفيلم القصير بتيميمون، أن يكون الاحتفاء بالسينما احتفاءً بالتاريخ، والفن، والإبداع.  ففي دورته الأولى، استحضر المهرجان أسماء بارزة في تاريخ السينما الجزائرية والدولية، مكرّماً المخرج أحمد زير، ومدير التصوير الراحل علال يحياوي، وصديق الجزائر المارتنيكي دانيال بوكمان.

أحمد زير، المخرج الجزائري المخضرم، عُرف برؤيته السينمائية المتميزة التي جسدت واقع الجزائر، وهمومها الاجتماعية والسياسية بروح فنية متجددة. أعماله التي تجاوزت الحدود المحلية، عكست قدرة السينما على أن تكون مرآة المجتمع، ومجسّداً للهوية الثقافية، وجعلت منه صوتاً مسموعاً في المهرجانات الدولية. علال يحياوي مدير التصوير الراحل، ترك إرثاً بصرياً غنياً. فقد استطاع بعدسته أن يلتقط جمال الجزائر الطبيعي والإنساني على حد سواء. رحيله لم يطفئ وهج أعماله التي مازالت تلهم الأجيال الجديدة من السينمائيين، وتؤكد أن الصورة السينمائية هي لغة عالمية تتجاوز الكلمات.

أما دانيال بوكمان المارتنيكي وصديق الجزائر، فقد جمع بين الروح الكاريبية والانفتاح الثقافي، ليصبح جسراً فنياً بين الجزائر والكاريبي. مساهماته السينمائية لم تقتصر على الإنتاج والإخراج، بل شملت تعزيز الحوار الثقافي والفني بين الشعوب، مؤكداً أن السينما أداة للتقارب، والتفاهم العالمي. هذا التكريم الذي أقامه مهرجان تيميمون وسط أجواء احتفالية، لا يكرّم الشخصيات فحسب، بل يعكس أيضاً، التزام المهرجان برسم خارطة السينما الإفريقية والعالمية، حيث يُمكن الفنانَ أن يكون شاهداً على التاريخ، وراوياً للحكاية، وملهماً للأجيال القادمة.


"أحاسيس" موسى نون

عرض يوقظ الحلم من رمال الصحراء

في افتتاح الدورة الأولى لمهرجان تيميمون الدولي للفيلم القصير، توقّفت الأنفاس أمام عرض فني حمل توقيع المبدع موسى نون، الذي اختار للصحراء أن تكون لغة، وللحلم أن يكون جسداً، وللسينما أن تكون روحاً.

وجاء العرض بعنوان "أحاسيس"؛ كأنّه انبثق من عمق الكون؛ ذلك الكون الواسع، الكبير، الشاسع، الذي يبدو بسيطاً في النظرة الأولى لكنه يزداد تعقيداً كلما حاولنا فهمه. من هذا التداخل بين البساطة والعمق نسج موسى نون رؤيته، وجعل من الفن وسيلة للبحث عن التناغم مع العالم، وللعبور عبره نحو أعمق ما يسكن الإنسان.

سحرٌ اسمه الفن… هكذا بدأ العرض. سحرٌ يفتح العين على دهشة جديدة، يجعل المشاهدين يعيشون ويتنفسون بوعي آخر، ويفهمون هشاشتهم وقوّتهم على حد سواء. فالحركة في "أحاسيس" لم تكن مجرّد تعبير جسدي، بل كانت اعترافاً ومصالحة.. رقصٌ على الوجع، على الفرح، على كل ما يُثقل الروح، وكل ما يحرّرها. كلّ الفنون، كما أرادها موسى نون، صبّت في بحر السينما. فالفكر والنور اندمجا في نبض واحد، ليقول الفنان: "أنا مرآة الفنون". تلك المرآة التي عكست ملامح الصحراء، وألوان إفريقيا، وروح الإنسان المسافرة بين الحلم والواقع.

ومن قلب الصحراء الجزائرية حيث يمتد الأفق بلا نهاية، أشرق "مهرجان تيميمون" كحكاية جديدة، كجسر يربط الزمن بالرمال. وفي تلك اللحظة بدا العرض كمن يهمس.. هنا يولَد الفن من الصمت، وهنا يكبر الحلم في حضن الضوء.. "أحاسيس" لم يكن مجرّد افتتاح… بل كان وعداً بأنّ السينما حين تُلامس الروح، تصبحُ بيتاً يسكنه كل هذا الجمال.