كانت همزة وصل بين الشرق والغرب
رغم عزلتها، تبقى المدينة الشامخة مليانة..

- 198

❊ مليانة.. همزة وصل بين الشرق والغرب الجزائريين
❊ تعلق المليانيين بالولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف
❊ قلة فضاءات العرض والترفيه بمليانة.. مشكلة عويصة
❊ مليانة.. من دخلها رابح ومن خرج منها رابح
حينما تزور مليانة يشدّك إليها موقعها الجغرافي الساحر والمعزول في آن واحد، وكأنّها عروس حية تدرك جمالها، لكنها لا تقوم بأيّ فعلة لتبرز ذلك، هي مدينة شامخة تقع على علو 740 متر، وتضم معالم أثرية وبيوتا عتيقة وتراثا غير مادي ثري، لا تغلق أبوابها أمام أيّ زائر وفي نفس الوقت لا تبحث عن المعجبين، فهي نفسها كافية.
يقول شمس الدين حاج علي لـ«المساء" إنّ مليانة تأسّست في فترة النوميدية وقد عرفت أيضا مرور الفينيقيين على أرضها، وقد كانت عاصمة ملجأ للحكم انوميدي في حال محاصرة العاصمة الرسمية سيرتا، ولما قَدِم الرومان إلى الجزائر لجأ النوميديون إليها حيث تم على أرضها القبض على يوغرطة. وتابع أنّ الرومان بوصولهم إلى مليانة ما بين 50 و25 سنة ما قبل الميلاد، اكتشفوا أهمية موقعها الجغرافي فهي محمية طبيعيا يحيط بها واديان وجبل زكار الذي يعتبر أعلى قمة سلسلة الظهرة التي تبدأ من البليدة وتنتهي غرب غليزان، كما تتوفّر على الماء ومناخها ملائم للحياة، ويمكن من مكانها المرتفع، مراقبة الأوضاع في المناطق المحيطة بها.
عرفت مليانة التي تم بناء سور يحيط بها ويحميها، ظهور ثورات عديدة في الفترة الرومانية، من بينها ثورة فيرموس البربري، لتتعرّض بعد قدوم الوندال إليها في القرن الرابع ميلادي للهدم، ومن ثم أعيد بناؤها على يدي حماد بن بولوغين زيري الصنهاجي، في القرن العاشر ما بين سنتيّ 970و972 ميلادي، أي إعادة بناء مليانة على أنقاض المدينة الرومانية، يضيف حاج علي.
وكانت مليانة تمثّل نهاية حدود الدولة الزيانية، لتصبح تحت الحكم العثماني عام 1518، وتكون تابعة لدار السلطان ثم لبيلك التيطري، وكان العثمانيون بمليانة يسيطرون على عدد كبير من قبائل جبال الظهرة إلى غاية الونشريس وحتى قبائل سهل الشلف، ثم تتعرّض للاحتلال الفرنسي عام 1840، أي عشر سنوات بعد سقوط الجزائر العاصمة، بفعل المقاومة الشرسة للقبائل المحيطة بمليانة وموقعها الجغرافي المحمي، علاوة على حضور الأمير عبد القادر الذي قَدِم إلى مليانة بطلب من سكانها عام 1835.
وأشار حاج علي إلى أطماع دول الجوار في مليانة بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر، حيث قدم وفد من المغرب يطلب من مليانة، أن تكون تابعة لها، إلاّ أنّ سكانها رفضوا واستنجدوا بالأمير الذي ترك خليفته هناك الأول محي الدين صغير والثاني محمد بن علال الذي استشهد وأعيدت جمجمته من فرنسا مع جماجم شهداء آخرين.
كما بنى الأمير عدّة مصانع للأسلحة في البلد بقي منها مصنع واحد في مليانة بناه بالقرب من منجم جبل زكار الذي كان يزخر بالحديد. أما حينما قدم المستعمر فقد قاومه الأمير بشراسة كان ذلك في 8 جوان 1840، بمنطقة سيدي بولفراد أسفل مليانة، ليطلب الأمير من سكان مليانة حرقها والخروج منها، كما قام هو بتحطيم مصنعه، ومن ثم دخل المستعمر أرض مليانة بقيادة فاليي وتم حصارهم من طرف الثوّار لمدة عام فتعرّض الكثير منهم وعددهم يقارب 1000شخص للموت وكذا إلى الأمراض إلى غاية وصول الدعم من بيجو.
أسوار وأبواب مليانة
وقف المختص في الآثار، عباس محمد كبير، عند أسوار مدينة مليانة التي بنيت في وقت الرومان ثم عرفت تغييرات في الفترة الإسلامية ليتم توسيعها وتغييرها بشكل شبه كلي في فترة الاحتلال الفرنسي، مضيفا أنّ طولها هو ثلاثة كلم، تحيط بمليانة ولها أربعة أبواب، باب زكار شمالا وباب الجزائر شرقا وباب بوطان غربا وباب يدمر جنوبا.
وأضاف أنه في عام 1865 زار نابليون الثالث مليانة وقدّم لرئيس البلدية هنري مارتان غلافا ماليا للتنمية المحلية، ودشّن الأسوار الجديدة التي تم توسيعها من جهة الغرب، مشيرا إلى أنّه من الراجح إيجاد آثار رومانية في حال القيام بحفريات بمليانة التي أعيد بناؤها من جديد من طرف من بولوغين بن زيري. في حين حوّل المستعمر الفرنسي مئذنة مسجد "البطحاء" إلى ساعة، بينما شيّد باي وهران سيدي محمد لكبير، وليد مليانة ومنقذ وهران من الاحتلال الاسباني، مسجد سيدي أحمد بن يوسف عام 1795 بينما توفي الولي الصالح عام 1526، ليتم بناء الضريح فالزاوية فالمسجد ثم الفندق.
كما يوجد في مليانة متحف الأمير عبد القادر وقد كان مقرا للخلافة بعدما كان دار الباي، وفي عام 1839 بنى الأمير مصنعا للأسلحة خارج أسوار المدينة أي في الجهة الشرقية لها، نظرا لثراء جبل زكار بالحديد ليتحوّل المصنع إلى طاحونة بعد احتلال المستعمر الفرنسي لمليانة. كما تضمّ مليانة أيضا منازل بطابع عثماني مثل دور القصبة مع اختلاف وحيد يتمثّل في عدم وجود سطح لقساوة المناخ بل تغطى المنازل بـ«القرميد" (القرمود)، وكذا حديقة عمومية دشّنت عام 1890، تضمّ أكثر من 400 نوع من النباتات، فيها تمثال صنعه النحات الفرنسي ماتيرا مورو، يضيف عباس محمد كبير.
أما عن تضاريس مليانة، فقال المتحدّث إنّ ما عزل مليانة هو كونها على هامش الطريق الوطني رقم 4، لكنّها كانت في القديم مشهورة فقد كانت همزة وصل بين الشرق والغرب فلا يمكن أن ينتقل أيّ شخص من الشرق إلى الغرب من دون المرور على مليانة مثلما حدث لابن بطوطة، مضيفا أنّ إحاطة مليانة بالوديان والجبل لم يساعد في تجسيد مشاريع تنموية، وبقيت مليانة التي تقع على علو 740متر، تعيش في العصر القديم. ودعا عباس محمد كبير الى إنشاء مركز ثقافي بمليانة يضمّ الفنانين والمثقفين والجمعيات التي لا مقر لها وتكتفي حاليا بغرفة في دار الشباب التي ما تزال في طور الترميم، مؤكّدا أنّ مليانة سحرها باق وأنّها تغار من جمالها رغم فقدانها للعديد من مبانيها.
بن فرح وبن مناصر
عودة إلى شمس الدين حاج علي الذي قدّم لـ«المساء" معلومات تخص القبائل الأمازيغية والعربية التي كانت تحيط بمليانة، من بينها قبيلتا بن فرح وبن مناصر، اللتان حاربتا المستعمر الاسباني في القرن السادس عشر مع الولي الصالح سيد أحمد بن يوسف ومن ثم المستعمر الفرنسي. وذكر أنّ مليانة أحاطت بها عدّة قبائل في مقدّمتها قبيلة بن فرح التي يقال إنّها اشتكت للولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف الجفاف، فقال لهم إنّهم سيفرحون قريبا وهو ما تحقّق، فأصبحوا يلقبون ببن فرح، أما القبيلة الثانية بن مناصر، فأطلق عليها الولي الصالح هذا الاسم لأنّها ساندته ضدّ ولي صالح من صلبها سيدي سميان وفي هذا الموضوع طلب بن يوسف الذي اطلق على البليدة اسم الوريدة، من الاخوة عروج إنقاذ الجزائر، في حين أنّ سيدي سميان كان ضدّ قدوم العثمانيين الى الجزائر.
فضاءات شبه منعدمة وأخرى قيد الترميم
وأشار حاج علي إلى أهمية بناء مراكز شباب وفنادق في مليانة التي تضمّ فندقا واحدا، أما عن الفندق التابع لضريح سيدي يوسف فهو قيد الترميم وحبذا لو أصبح فندقا عموميا تابعا لوزارة الثقافة والفنون حتى يتمكّن من إيواء ضيوف مليانة، وطالب المتحدّث أيضا بإنشاء أروقة فنية وفضاءات خاصة بالحرف باعتبار أنّ مليانة تزخر بطاقات إبداعية هامة. أما عن قطاع السينما، قال المتحدّث إنّ مليانة شهدت السينما مبكرا أي عام 1910، وكان لها ثلاثة فضاءات خاصة بهذا الفن، تم غلق قاعتين في التسعينات والثالثة في الهواء الطلق (الحديقة) لم تفعّل مجدّدا، ليطالب بترميم قاعات السينما.
بالمقابل، حاولت جمعية "أصدقاء مليانة" تنشيط الجلسات الأدبية بالمنطقة فتم دعوة العديد من الكُتّاب المعروفين مثل واسيني الأعرج وأمين الزاوي، وتم أيضا تنظيم ورشات الكتابة والقراءة خاصة في زمن الكوفيد، لكن تجد الجمعية نفسها دائما أمام مشكلة عويصة تتمثّل في قلّة الفضاءات التي يمكنها احتضان مثل هذه الفعاليات ومن بينها أيضا فعالية لعبة الشطرنج التي تعدّ مليانة من بين أوائل المدن الجزائرية التي ازدهرت بها هذه الرياضة. وتابع حاج علي أنّ قاعة العرض الوحيدة الشغّالة هي المسرح البلدي "محفوظ طواهري" التي قبل قدوم الفرنسيين كانت عبارة عن جامع في المذهب الحنفي ثم تحوّلت إلى قاعة أوبرا فمسرح عام 1870. تحتضن حاليا تقريبا كل النشاطات الثقافية لمليانة.
.. كتبوا عن مليانة
وفيما يخصّ الكتب التي أُلّفت عن مليانة، نجد العديد من المؤلفات حسب شمس الدين حاج علي، فهناك كتب أحاطت بتاريخ المدينة مثل الكتاب الذي ألّفه الأستاذ حاج صادوق بعنوان "مليانة ووليها الصادق" هناك أيضا رواية صدرت مؤخرا لمصطفى شلفي بعنوان "جبل"، وعمل آخر لرابح خدوسي موسوم بـ«علماء وأعلام مدينة مليانة" وغيرها، مثلما كتب عنها الكثيرون مثل الحسن بن محمد الوزّان المعروف بليون الافريقي.
الزوايا بمليانة حاضرة دوما
تحدّث حاج علي عن الزوايا والمساجد بمليانة التي وصل عددها سابقا إلى 25، ذكر منها حسب ترتيبها الزمني الزاوية القادرية والطريقة الشاذلية والعيساوية والطايبية والرحمانية والقادرية الهبرية التي تعدّ فرعا من الطريقة الشاذلية التي ما تزال إلى اليوم بمليانة. وأضاف أنّ الولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف أخذ من السلسلتين الذهبيتين للشاذلية والقادرية وكان القائد الأكبر للشاذلية في منطقة المغرب العربي وبفضل جهوده أيضا وصل دين الإسلام إلى افريقيا السوداء، ليؤكّد دور الزوايا في الصلح وحلّ النزاعات، أي أنّها كانت تتميّز بدور اجتماعي أهملناه اليوم. أما اليوم فيوجد في مليانة، ثلاث زوايا للهبرية وزاوية صغيرة اسمها سيدي بلقاسم، بينما على مستوى زاوية سيدي يوسف هناك الطريقة الرحمانية والطيبية.
معاناة مليانة من حريق فارهاب
عاد الأستاذ الجامعي والكاتب أحمد بن رابح لمعاناة مليانة في سنوات التسعينات حيث شهدت أكثر من انفجار لكنّه قبل أن يتحدّث عن هذا الموضوع، عاد إلى مأساة أخرى حدثت في 31 أكتوبر 1968 حينما كان محفوظ طواهري يقدّم مسرحية عن التمييز العنصري فطلب منه ومن شباب آخرين التوجه الى جبل زكار للمساعدة في إخماد الحريق ليلقى مصرعه رفقة 23 من خيرة شباب مليانة.
مليانة التي يقولون عنها إنّ "من دخلها رابح ومن خرج منها رابح"، عانت كثيرا في مرحلة الإرهاب فقد تم حرق مركز جامعي ونقل مصنع للأفران لتيزي وزو ومركز للأطفال المتخلفين ذهنيا إلى ولاية عين الدفلى، كما تم غلق مشفى لمعالجة مرض الربو. وأضاف بن رابح أنّ مليانة عرفت في أوقات ما، إشعاعا كبيرا وفي أوقات أخرى خفت شمعتها، إلاّ أنّ الثقافة تبقى حاضرة وإن اختلف وهجها الذي كانت عليه، مثلما تم مؤخرا تكريم الفنان الرسام الراحل لطفي قوديل في مقهى لخواص وعدوا بتكريم فنانين آخرين من مليانة.