اليوم الثاني للمهرجان الدولي للفيلم القصير
ذاكرة وصمود في السينما الوثائقية
- 190
مبعوثة "المساء" إلى تيميمون: نوال جاوت
في اليوم الثاني من فعاليات مهرجان تيميمون الدولي للفيلم القصير، امتلأت قاعة "مالك بن نبي" بعشاق السينما الوثائقية، حيث قدمت العروض مجموعة متكاملة من الأفلام التي تتجاوز مجرد نقل الواقع لتصبح رحلة إنسانية في الذاكرة، والصمود، والتجارب الاجتماعية والثقافية. من الجنوب الجزائري إلى مخيمات تندوف، مرورًا بغوما الكونغولية وصحراء موريتانيا، جسدت هذه الأعمال قدرة السينما على الجمع بين الصوت والصورة والإنسان في سرد متماسك وعميق.
"خمسينات" الفيلم الجزائري الذي افتتح عروض اليوم، يعد رحلة بصرية وسمعية في ذاكرة الجنوب الجزائري. بإخراج آسيا خميشي، مهندسة الصوت والمخرجة الجزائرية التي تخرجت من المعهد الوطني للسمعي البصري وتلقت تدريبات متقدمة عبر "Lab DZ" وورشات فاران في فرنسا، يقدم الفيلم تجربة متفردة تمزج بين أرشيفات صوتية وصور معاصرة، معتمدًا على سرد آسِر يجمع الماضي بالحاضر في تيميمون. من خلال هذا المزج، تكشف خميشي قصة خالدة وثقافة صامدة أمام نسيان الزمن، لتقدم للمشاهد رحلة نابضة بالحياة تعكس أصوات مجتمع ما زال صداها يتردد عبر التاريخ، مستحضرة في آن واحد الذاكرة والهوية. يمتد الفيلم لـ 26 دقيقة، ويعدّ امتدادًا لرحلة المخرجة التي بدأت بأول فيلم وثائقي صوتي لها "المنجور" الحائز جوائز دولية، لتتوسع بعدها إلى الصورة مع أعمال مثل "الجانب الآخر من الشمس".
بعد الجزائر، أخذنا الوثائقي الكونغولي "غدا سيكون أفضل Lobi Ekosimba" إلى مدينة "غوما" في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث أنهكت المدينة عقود من الحرب والصراعات. المخرج إيلي مايني المولود عام 1994 والناشط المستقل في مجال حقوق الإنسان، استطاع أن يقدم صورة حية وصادقة عن الحياة اليومية للسكان، مستخدمًا الكلمات والصور والصوت كأدوات فنية وإنسانية للتعبير عن صمودهم. يمتد الفيلم لـ15 دقيقة، ويصوّر من خلال شهادات عدّة شخصيات نضالات السكان، آمالهم، أحلامهم وروابط التضامن المتشابكة وسط المعاناة، ليكون أكثر من مجرد حكاية بقاء، بل تحية لكرامة الإنسان وإصراره على عدم الاستسلام لليأس.
من الكونغو، أخذنا الفيلم الوثائقي الدولي "صحراء" في رحلة عبر موريتانيا، بمزيج إنتاجي من موريتانيا وإيطاليا، ليقدم لنا الحياة في الصحراء بواقعية نابضة. إخراج توماسو كوتروني، المخرج الإيطالي الذي اكتشف السينما عام 1993 بجانب المخرج فيتوريو دي سيتا، والملتزم منذ بداياته بأسلوب مباشر وبسيط يمنح الكلمة للحياة الهامشية، جعل من الفيلم دراسة إنسانية عميقة عن البقاء في ظروف قاسية. يرصد العمل في 30 دقيقة، من خلال هدير عربات القطار الصدئة، حياة السكان بين ماعز عطشى، وشباب يحلمون بالهجرة، وبدو يتشبثون بالعربات أثناء احتساء الشاي بالنعناع. القطار يصبح رمزًا للبقاء، ناقلًا للماء والوقود، وعمودًا فقريًا لوجود هشّ، ليقدّم صورة مدهشة عن التكيف والانسجام مع بيئة شحيحة الموارد، ممزوجة بلمسة شاعرية وصمت يخيّم على الصحراء. أما الختام، فكان مع الفيلم الإسباني "لعنة القمح" الذي قدّم تجربة إنسانية أخرى، هذه المرة في مخيمات تندوف للاجئين الصحراويين، بإخراج الثنائي بابلو مونتيس سانشيث وألفارو مونتيس سانشيث يتميز الفيلم ( 20 دقيقة) بإلقاء الضوء على حياة أكثر من 170 ألف صحراوي يعيشون في المخيمات منذ عام 1976 بعد احتلال المغرب للصحراء الغربية. بابلو مونتيس صحفي ومؤسس شركة Cárabo Producciones، وألفارو متخصص في التعاون الدولي والتنمية، يوظفان خبرتهما لإبراز الواقع القاسي الذي يعيشه السكان، مع التركيز على التحديات الصحية مثل مرض "السيلياك (الداء البطني)" الذي يواجه نحو ستة في المئة من النازحين.
الفيلم يقدم رؤية متفحصة عن الاعتماد على المساعدات الإنسانية المتناقصة، ويبرز الصمود الإنساني في مواجهة ظروف قاسية، لتتجسد قوة السرد الوثائقي في تقديم المعاناة بطريقة تحترم كرامة الشخصيات وتعيد للبشرية وجها إنسانيًا عميقًا.جمع هذا اليوم الثاني بين ذاكرة الشعوب، صمود المجتمعات، والتحديات اليومية التي تواجهها، مؤكدًا قدرة السينما الوثائقية على المزج بين الفن والواقع، بين السرد الشخصي والتاريخي، وبين الصوت والصورة والإنسان. إن مشاهدة هذه الأفلام لم تكن مجرد متابعة لعرض سينمائي، بل تجربة تعليمية وإنسانية تعكس قوة الفن في نقل الواقع بطريقة صادقة وجاذبة، محافظة على وحدة العضوية والتماسك بين مختلف القصص والبيئات المعروضة.