المعرض الفوتوغرافي للراحل محمد كواسي بقصر رياس البحر
ذاكرة موثقة لسنوات الثورة وما تلاها من أيام الاستقلال

- 542

يحتضن قصر الفنون برياس البحر، إلى غاية 20 فيفري الداخل، معرضا فوتوغرافيا للمصور الراحل محمد كواسي، الذي وثق بعدسته، ذاكرة الثورة التحريرية، ثم سنوات الاستقلال الأولى، واستطاع باحترافيته وإيمانه بقضية بلاده، أن يُخلف أرشيفا يعتبر الأهم في تاريخ الجزائر المعاصر، وبهذه المناسبة، عرضت الكثير من أعماله (150 صورة) التي لا تقدر بثمن، واستحضر بعض من عرفوه في نضاله، وفي مقدمتهم أرملته السيدة صفية بوكاسي، رفيقة نضاله وسكرتيرة الحكومة المؤقتة.
أسهب الأستاذ عبد الرحمن جلفاوي، في التعريف بالراحل كواسي ومرافقة الحضور في جولته عبر أجنحة المعرض، حيث توقف عند رحلة الكفاح، التي عاشها الراحل قبل الثورة، مؤمنا بالحرية والاستقلال، واصفا إياه بالثائر، رغم هدوئه وطول باله.
ولد الراحل محمد كواسي عام 1922 بالبليدة، وترعرع بالقصبة السفلى في العاصمة، ثم عاش بحي بولوغين وتعاطى فن التصوير في سن مبكر. في سنة 1948، هاجر إلى باريس لتحسين مهاراته، وفيها احتك بالطلاب الجزائريين، منهم طلبة الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، لينضم بعدها إلى جبهة التحرير الوطني، ويصبح المسؤول عن قسم التصوير بوزارة الإعلام في الحكومة المؤقتة، أي في الفترة من 1958 حتى 1962، ليصف في كل تلك المرحلة، يوميات الجزائريين في الحرب، فصور القرى والمداشر والعمليات العسكرية والحدود الشائكة واللاجئين وقادة الثورة وغيرها، وصولا إلى تصوير الأيام الأولى للاستقلال.
بعد الاستقلال وإلى غاية 1969، شغل الراحل منصب نائب مدير بوزارة الاتصال، ثم أصبح مصورا مستقلا، ليرحل في 21 أوت سنة 1996.
أشار الأستاذ جلفاوي، في سياق حديثه عن رحلة الراحل مع زوجته من باريس نحو تونس، بعد تلقيهما أمرا بالمغادرة من قبل قادة الثورة، فخرجا دون حقائب باتجاه صقلية، وفي كل مدينة كان هناك ممثل لجبهة التحرير (الممثل المحلي) في استقبالهما ومساعدتهما على المرور، وهو ما يجسد، حسب المتحدث، قوة التنظيم في الثورة، ليصلا معا في 21 أوت 1957 إلى العاصمة تونس، في أول يوم رمضان، قادمين من صقلية، ليبدأ بعدها العمل في وزارة الاتصال بالحكومة المؤقتة، خاصة مع الراحلين بيار شولي وامحمد اليزيد وفرانس فانون ورضا مالك وغيرهم.
دخل الراحل كواسي الجزائر من تونس، لتصوير أحداث ووقائع الثورة، وقد صور بداية البطل أوعمران وفرقته بجبال الأخضرية، وهي الصورة التي قلبت فرنسا بعد صدورها في جريدة "أوبسيرفاتوار"، ثم صور تفجيرات النابالم على القرى والأسلاك الشائكة، كما صور أول مقابلة لفريق كرة القدم لجبهة التحرير بالمغرب، حيث فازت بـ14 هدفا، ناهيك عن صور أخرى للاجئين بمراكز الإيواء والمخيمات التي تكفلت بهم الثورة، وكذا العمل الديبلوماسي لفرانس فانون، وكان هو من وثق وصور جنازته وعبور نعشه من تونس نحو الجزائر، عبر خط موريس، تحت إشراف الراحل الشاذلي بن جديد، تنفيذا لوصية فانون حين طلب بأن يدفن على أرض الجزائر، واستمر كواسي في مهمته حتى الاستقلال، حينما وثق الأيام الأولى من عرس الاستقلال، إذ أن أغلب الصور التي يعرفها الجزائريون كانت من توقيعه، وكذا صور عن المهرجان الإفريقي ومهرجانات دولية أخرى، منها مهرجان الشباب بموسكو.
قال الأستاذ جلفاوي، إن الراحل كواسي لم يكن مصورا عاديا، بل كانت له نظرة وقناعات، ولم يعتمد على اللقطة في حد ذاتها، بل اعتمد على سياقها ومحتوى معناها، فيركز مثلا، على النظرات والانفعالات والعلاقات الإنسانية والصداقة الواضحة، كما في صورة بلعيد عبد السلام والصديق بن يحي، وكذا في اللقاءات الاستراتيجية بين قادة الثورة، وهناك صورة تعود إلى السنوات الأولى للاستقلال في ملعب كرة القدم، حضرها بن بلة وبومدين وآخرون، وضيوف أجانب صورت نظراتهم المخطوفة وهي تتابع لحظة تسجيل الهدف.
تضمن المعرض مجموعة من بورتريهات المناضلين وقادة الثورة، يعود معظمها إلى سنتي 60 و61، كأحمد بن بلة وحسين آيت أحمد وسعد دحلب ومحمد بوضياف وكريم بلقاسم وبن يوسف بن خدة ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف وامحمد يزيد وفرحات عباس وسعد دحلب ومحمدي السعيد وغيرهم، وهناك أيضا بورتريهات لأصدقاء الثورة الجزائرية، على غرار إرنيستو تشيغيفارا وباتريس لومومبا وفيدال كاسترو في حقول قصب السكر، وجوزيف بروس تيتو، وأيضا قادة عرب، من بينهم الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر والحسين بن طلال.
قال المتدخل، إن احتكاك كواسي مع قادة الثورة، أكسبه نوعا من الحنكة، ذكر منهم بو الصوف الذي اعترف بخبرة هذا المصور ودعاه إلى أن ينزع الشريط ويخفيه بعد كل تصوير، ضمانا للسرية وحماية له (تدقيق مخابراتي)، كذلك علاقة كواسي القوية بالراحل كريم بلقاسم، ثم بمحمدي السعيد، الذي كان جاره بالعمارة، وهنا يذكر المتحدث أن كواسي طلب من محمدي السعيد أن يرتدي بدلة رسمية حين السفر للخارج، فأجابه "أنا أمثل الثورة ولا أمثل دار أزياء"، لكنه كان يستجيب أحيانا لطلب كواسي.
صور كواسي قادة الثورة في صور جماعية بأسلوب بسيط، بعيد عن البهرجة والتصنع والأضواء، من باب إبرازهم كأفراد من الشعب، وليسوا نخبة متميزة، كما أن هناك صورا أخرى فيها نوع من الطرافة والمزاح بين الثوار الأصدقاء، وكانت تعجب أهل الديبلوماسية، منهم الأمريكان، كالراحل كندي ورجاله. وصور كواسي أيضا يوميات الجنود بالجبل، وهناك صورة لعناق حار بين جندي وطفل من اللاجئين، وصلاة الجماعة للجنود كرمز للهوية، وهذه الصورة جالت العالم الإسلامي حينها، إضافة إلى نظرة ثاقبة لجندي يحمل سلاحه، بقيت رمزا لفعل المقاومة عبر العالم. صور أخرى لكواسي في الجبل مع الجنود، وهنا أشار الأستاذ جلفاوي، إلى أن الراحل كان يحمل معه آلتي تصوير (2)، وقال إن آلة تصويره كانت أحدث آلة تصوير في العالم، حينها اشترتها له الثورة من ألمانيا الشرقية المعروفة بهذه التكنولوجيا، علما أن هذه الآلة لا تحدث صوتا حين التقاطها للصور، بالتالي كانت آمنة، وكذلك صامدة ومتينة، ويذكر أيضا أن الراحل كان دائم الابتسامة، ولا يستفز أبدا ولا يغضب ويعذر من يخطئ في حقه.
تم تكريم الراحل كواسي في السويد، التي أهدته أكبر آلة تصوير في العالم، والتي لم تستعملها سوى الولايات المتحدة في مركبة أبولو . وكتب الراحل بعد الاستقلال 3 كتب، منها "جزائر الأمس واليوم"، يحكي فيها تاريخ الجزائر منذ القرن 15م، وبه صور، صدر في إيطاليا، تمنى جلفاوي أن يعاد طبعه، خاصة في الظروف الراهنة، وهو الأمر الذي وعد به ممثل وزارة الثقافة والفنون المفتش العام، ميسوم لعروسي. بالمناسبة، صرحت أرملة الراحل السيدة صفية كواسي لـ«المساء"، عن سعادتها بهذا المعرض، متمنية أن يراه الشباب الذي كان يؤمن به الراحل كواسي مثلها تماما.
للإشارة، عُلقت في بهو المعرض كلمة طويلة، بخط الشاعر الراحل مالك حداد عن كواسي، من ضمن ما جاء فيها "كواسي يدعونا إلى نوع رفيع من القراءة، معه التقنية ترفض حدودها لتصبح موهبة، حيث يتقاسم معنا الفنان نظره ورؤيته"، مضيفا "كرمه يدعونا إلى التعرف على حماسه وأحاسيسه، إننا نعيش معه بريق تعريف آخر للعالم، الذي يأخذ فجأة معنى رائعا، والذين أسعفهم الحظ طوال هذه السنوات من مرافقة كواسي في أسفاره، أحسوا بتدفق هذه الرزانة وهذا النور".