"رؤية مختلفة" لعبد القادر روابح برواق "راسم"

دعوة للغوص في أعماق النفس

دعوة للغوص في أعماق النفس
  • 197
لطيفة داريب لطيفة داريب

ينظّم  الفنان التشكيلي عبد القادر روابح معرضه الجديد برواق "محمد راسم" بالجزائر العاصمة بعنوان "رؤية مختلفة: رحلة إلى الداخل"، حيث يقترح على الزائر تجربة تشكيلية مغايرة لما قدّمه في محطاته السابقة، قائمة على التحرّر من القوالب التقليدية، والانفتاح على التجريد والرمزية، من خلال توظيف صورة المرأة كرمز للباطن الإنساني، وأداة فنية للتعبير عن القلق المعاصر والحاجة الملحة للسكينة.

قال الفنان في حديثه مع "المساء" إنّ "رؤية مختلفة" هو دعوة للجمهور للغوص في أعماق النفس البشرية من خلال صورة المرأة التي أخذها كرمز للتعبير عن باطن الإنسان. وأضاف أنّه يعبّر في هذه الفعالية أيضا عن أحلام المرأة ومنها عن هموم البشر وما نعيشه في عصرنا الحالي من قلق، حيث الجمهور يكون بحاجة إلى أخذ قسط من الراحة في الحياة اليومية، لذلك فأعماله كلّها ملّونة، إنّما لكلّ لوحة شخصياتها، فهناك لوحات باللون الأزرق لما يرمز إليه من سكينة وهدوء، وأخرى تنبض بحرارة الألوان الساخنة مثل البرتقالي والأحمر المستوحاة من بيئتنا الجزائرية وصحارينا المدهشة.

وجوه بلا تفاصيل..

كشف الفنان عن اختلاف اللوحات المعروضة في رواق "راسم" عن سابقاتها، فقد ابتعد عن التشخيص الواقعي، ورسم نساء جزائريات بلا تفاصيل دقيقة ولا ملامح ظاهرة فجاءت جميعها بدون مبسم، وهو خيار فني مقصود، كما أوضح "رسمت نساء جزائريات بلا فم أو تفاصيل دقيقة، إنها دعوة لكي يدخل الزائر إلى اللوحات ويتعمّق فيها، فلا ينظر إلى الغلاف الخارجي بل إلى الداخل".

بهذه الطريقة، يمنح الفنان للمشاهد حرية التأويل، مؤكّداً أنّ اللوحة ليست نصاً مغلقاً أو معادلة رياضية تحتاج إلى حلّ، بل فضاء مفتوحا لتعدّد القراءات، حيث يضيف "اللوحة لها عدّة قراءات، تركت الجمهور حقّ قراءتها من منظوره الخاص. المشكل ليس في أن لا تفهم اللوحة، بل في أن لا تحسّ بها".

بين الموروث والحداثة

لم ينقطع عبد القادر روابح عن اشتغاله الطويل على الموروث الثقافي الجزائري، الذي ظلّ ينهل منه عبر الرموز والأشكال والزخارف المستوحاة من الزرابي التقليدية، قبب المساجد، والحروف العربية. فقد كانت طفولته في المساجد منبعاً لهذا الحسّ التشكيلي المبكر، حيث يتذكّر أنه تأثّر كثيراً بالزرابي المزخرفة التي كانت تفرش قديماً، وما تحمله من رموز وألوان صاغتها أيادٍ جزائرية متقنة. هذا الموروث البصري جعله لاحقاً يركّز في بحوثه على رمزية الأشكال مثل المثلث والدائرة والخط.

وفي هذا قال "اكتشفت الرسم في المساجد، حينما لم أكن أتمتّع بالخشوع الديني نظرا لحداثة سني، بيد أنّني كنت أملك الحسّ الفني من خلال الرموز والرسومات التي كنت أراها في الزرابي المفروشة بالجامع".

بالمقابل، تميّزت الأعمال السابقة للفنان بالهدوء والسكينة، أما في "رؤية مختلفة" فقد اتّجه روابح نحو ما سماه بـ"الفوضى المنظمة"، مع استعمال الألوان الزيتية التي يفضلها على الأكريليك، لاعتقاده بأنّها أكثر قوّة وديمومة.

الطبيعة مصدر إلهام

الطبيعة، بما فيها من غنى بصري وتنوّع بيئي، تشكّل بالنسبة لروابح مرجعاً لا ينضب. فقد أبهرت الألوان الجزائرية فناني الاستشراق الذين تنقّلوا إلى مدن مثل بوسعادة وبسكرة، وهو يعتبر نفسه محظوظاً بهذه البيئة التي تمنح الفنان أربعة فصول كاملة، لكلّ واحد منها إلهاماته الخاصة.

ويذكر على سبيل المثال حقول الخشخاش التي تعرف بها مدينة برج بوعريريج، والتي يعتبرها ملهمة لدرجة أنه يقول عنها "هذه الوردة رسمتني كفنان ورسمتها كوردة".

الفن كبحث فلسفي وجمالي

بالنسبة لروابح، الفن ليس فقط إتقاناً للألوان والأشكال والخطوط، بل هو بعد ثقافي وفلسفي يمنح الإنسان معنى لوجوده. فهو يرى أنّ لحظة التأمّل في لوحة أو مشهد طبيعي، حتى لو كانت لدقيقتين فقط، كفيلة بأن تحرّك مادة "الإندورفين" في الدماغ، فتمنح الإنسان جرعة من السكينة والسعادة. ومن هذا المنطلق، فإنّ الفن دعوة إلى التوقّف عن اللهاث اليومي والانفتاح على الجمال.

أيضا ما يميّز علاقة روابح بالجمهور أنّه لا يعتبر المشاهد متلقياً سلبياً، بل مشاركاً في صياغة معنى اللوحة. ويؤكّد أنّ بعض الزائرات يعبّرن له عن انتمائهن من خلال المعرض، بل يصل بهن الأمر أحياناً إلى بوح مشاكلهن الخاصة. 

للإشارة، عبد القادر روابح من مواليد 1969 ببرج بوعريريج، متخرّج من المدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر العاصمة سنة 1996، تخصّص رسم زيتي، تتلمذ على يد الفنانين شكري مسلي وعبد الرحمان عيدود. يعيش ويعمل بمدينته، ويشغل منصب مفتش ثقافي وفني بدار الثقافة منذ سنة 2000.

أقام معارض فردية عديدة داخل الجزائر، وتنقل إلى مناطق مختلفة مثل إليزي وتيزي وزو، كما خاض تجربة فريدة حين عرض أعماله في "مناطق الظل" كسيدي جيلالي على الحدود مع المغرب، حيث التقى جمهوراً لم يسبق له أن شاهد لوحة تشكيلية. وهو يفكر في مشاريع مستقبلية لتنظيم معارض بوهران وتيزي وزو.