يعنى بحفظ الذاكرة الإعلامية للثورة
دعوة لإنشاء مركز وطني للتوثيق والنشر العلمي

- 133

أجمع باحثون ومشاركون في ندوة وطنية حول "الإعلام الجزائري أثناء الثورة التحريرية الكبرى، آليات التأثير ورهانات التوثيق"، على أنّ الإعلام الثوري لم يكن مجرّد وسيلة مرافقة للعمل المسلح، بل كان فاعلا أساسيا في معركة التحرير الوطني، حيث مارس أدوارا استراتيجية في التوجيه والتعبئة وكسب الرأي العام الداخلي والخارجي، ونجح في خلق خطاب مقاوم واجه الدعاية الاستعمارية الفرنسية بمهنية سياسية وحنكة اتصالية متقدّمة على ظروفه ووسائله.
شدّد المتدخّلون في الندوة، التي احتضنتها جامعة "الأمير عبد القادر"، أمس، على أنّ الإعلام خلال الفترة الممتدة بين 1954 و1962، تجاوز طبيعته الإخبارية الكلاسيكية، ليكون منبرا ثوريا عابرا للحدود، فهو استثمر اللغة والرموز والهوية لتثبيت مشروعية الكفاح المسلح وتعزيز وحدة الصف الوطني، فبين الصحافة المكتوبة، والإذاعة الثورية، والنشريات السرية، نسج الثوّار شبكة إعلامية دؤوبة واجهت التضليل الاستعماري بمنطق الحجة وبالوثيقة والشهادة الميدانية، كما استطاعت أن تخترق الجبهات الداخلية والخارجية، وتنقل صوت الجزائر المكافحة إلى العالم، في ظلّ ظروف أمنية وتقنية صعبة.
تناولت الندوة، التي شهدت مشاركة نخبة من الباحثين والمؤرّخين والإعلاميين، عددا من التساؤلات الجوهرية المرتبطة بطبيعة الأدوار التي اضطلع بها الإعلام الثوري، والآليات التي اعتمدها في معركته ضدّ الدعاية الفرنسية، كما ناقشت التحديات التي تواجه اليوم عملية توثيق هذه التجربة الإعلامية الغنية، في ظلّ ما تشهده الساحة الأكاديمية والإعلامية من تحوّلات منهجية وتقنية، حيث اعتبر المشاركون أنّ الإعلام الثوري، باعتباره جزءا لا يتجزأ من ذاكرة الأمة، يطرح اليوم رهانات متعدّدة، أبرزها ضرورة الأرشفة العلمية لمضامينه، وجمع الشهادات الحية، وتحويله إلى مادة بحثية متجدّدة، تحفظ للأجيال القادمة مسار الكفاح الوطني من زاوية الإعلام والتأثير الرمزي.
كما أبرزت النقاشات الفرق الجوهري بين الإعلام الثوري، الذي ارتكز على الصدق والهدف التحريري، وبين الإعلام الاستعماري القائم على التضليل ونزع الشرعية عن الثورة. وتم التأكيد على أنّ المعركة الإعلامية لم تكن أقل ضراوة من المواجهة المسلحة، بل كانت جبهة موازية، اشتغلت على بناء الوعي الشعبي، وتفنيد الرواية الاستعمارية، وترسيخ روح المقاومة والصمود. في هذا السياق، تمت الدعوة إلى إعادة قراءة التجربة الإعلامية الثورية من خلال مقاربات علمية حديثة، تجمع بين التاريخ والاتصال، بما يسمح بتوسيع دائرة البحث حولها، وتوظيفها في تعزيز الهوية الوطنية.
واعتبر عدد من المتدخّلين أنّ غياب سياسة واضحة في جمع وأرشفة المواد الإعلامية الثورية يشكّل خطرا على هذا الرصيد الرمزي والتوثيقي، داعين إلى إنشاء مؤسّسات أو آليات وطنية لحفظ الأرشيف الإعلامي للثورة، وربطه بالمناهج التربوية والبحثية، وتحفيز الدراسات متعدّدة التخصّصات التي تعالج الإعلام الثوري كفاعل تاريخي. كما شدّدوا على ضرورة استثمار هذه الذاكرة الإعلامية في الخطاب الثقافي والتربوي المعاصر، بما يعيد الاعتبار للإعلام كقوة ناعمة لعبت دورًا جوهريًا في صناعة التحرير والانتصار.
وخلصت الندوة إلى أنّ الحفاظ على هذا الإرث الإعلامي لا يمثّل فقط وفاءً لتاريخ الكفاح الوطني، بل هو ضرورة معرفية واستراتيجية لإبراز مساهمة الإعلام الجزائري في إحدى أنبل ثورات القرن العشرين، حيث أوصى المشاركون بضرورة إبراز الدور الاستراتيجي للإعلام الثوري في تشكيل الوعي الوطني والدولي، وتعبئة الرأي العام إلى جانب الكفاح المسلح، مع الدعوة إلى استلهام قيمه الوطنية والإنسانية في الخطاب الإعلامي الراهن.
اقترح المحاضرون إنشاء مركز وطني للتوثيق والنشر العلمي يعنى بحفظ الذاكرة الإعلامية للثورة، مع التأكيد على ضرورة التعاون بين المؤرّخين والإعلاميين وخبراء الأرشفة، وإطلاق مبادرات للتوثيق الشفوي لشهادات روّاد الإعلام، فضلا عن تأكيدهم على أهمية تطوير الدراسات الأكاديمية حول الإعلام الثوري باعتماد مقاربات متعددة، مع التركيز على الخطاب الإذاعي ودوره التعبوي من خلال تحليل خصائصه البلاغية والإقناعية. كما دعت التوصيات إلى إدراج مقاييس جامعية متخصصة في الإعلام الثوري، بما يضمن حفظ الرواية التاريخية وصون الذاكرة الوطنية.