"الأمن الثقـافي والإعـلام"
دروع الوعي في مواجهة الحروب الهجينة
- 188
نوال جاوت
"الأمن الثقافي والإعلام، التحديات المستقبلية" هو صلب الندوة التي احتضنتها قاعة المحاضرات الكبرى "آسيا جبار" ، أوّل أمس الأحد، وشكّلت سانحة للاقتراب أكثر من ماهية الحروب الهجينة ومراميها، فضلا عن سبل مواجهتها في ظلّ تسارع تكنولوجي رهيب، حيث قدّم الدكتور أحمد بن سعادة في محاضرة افتتاحية فصّل فيها ما يعرف بـ"الحروب الهجينة" أو "حروب الجيل الرابع" مشيرا إلى أنّها لا تُستخدم فيها الأسلحة التقليدية وحدها، بل تُوظَّف أدوات ناعمة كالإعلام والثقافة والتكنولوجيا والمنظمات غير الحكومية لتوجيه الرأي العام وتفكيك البُنى الوطنية من الداخل.
يرى بن سعادة أن هذه الحروب تمثّل الشكل الحديث للاستعمار، إذ لم تعد السيطرة العسكرية هي الأداة الوحيدة لإخضاع الشعوب، بل أصبحت العقول هي ميدان المعركة الحقيقي. ففي مؤلفه المرجعي "الجزائر: الحرب الهجينة الكبرى"، يُبيّن كيف تُستغل الشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان لإضفاء الشرعية على تدخّلات خارجية تستهدف زعزعة استقرار الدول المقاومة للهيمنة الغربية، عبر دعم حركات تبدو في ظاهرها "مدنية"، لكنّها تعمل ضمن أجندات موجَّهة.
ويُبرز الباحث أن ما يُسمّى بـ"الثورات الملوّنة" التي شهدتها بعض الدول، ليست سوى أحد تجليات هذه الاستراتيجية الجديدة، التي تُدار عبر شبكات إعلامية ومنصّات رقمية ضخمة، تُستخدم فيها الأخبار الزائفة، والحملات الموجّهة، والتلاعب بالمشاعر الجماعية لخلق الانقسام والتشكيك في مؤسسات الدولة. ويؤكّد أنّ هذه الحروب الخطيرة تُخاض دون جيوش ولا مدافع، بل عبر أدوات تبدو بريئة، تجعل من السيطرة على الوعي الجماعي أكثر فاعلية من السيطرة على الأرض.
المنصات الحديثة.. مختبرات للرأي العام
في تحليله، يربط بن سعادة بين الإعلام الرقمي والتأثير النفسي، موضّحًا أن المنصّات الحديثة تحوّلت إلى مختبرات للرأي العام، تُستعمل فيها تقنيات الذكاء الاصطناعي وخوارزميات الاستهداف الدقيق لنشر محتوى يوجّه المواقف والسلوك الجماعي في اتجاهات محدّدة. وهو ما يجعل المجتمعات عرضة لحملات تضليل ممنهجة، تُضعف الثقة بالمؤسّسات وتفتح الباب أمام صراعات داخلية. ويشدّد على أنّ مواجهة هذا النوع من الحروب لا يمكن أن يكون أمنيًا فقط، بل يجب أن يكون ثقافيًا وإعلاميًا بالدرجة الأولى، من خلال تعزيز الوعي النقدي لدى المواطن، وتمكينه من أدوات تحليل الخطاب الإعلامي، وبناء إعلام وطني سيادي قادر على الدفاع عن قيم المجتمع وثوابته.
كما يدعو إلى ضرورة إعادة الاعتبار للبحث العلمي في مجال الاتصال والإعلام، باعتباره أحد أسلحة المواجهة في معركة "الوعي"، التي يرى أنّها أخطر من المعارك العسكرية لأنّها تُدار في الخفاء، وتستهدف الهوية والانتماء. موجّها نداءً إلى المثقفين والإعلاميين والباحثين، لتحمّل مسؤوليتهم التاريخية في كشف هذه الاستراتيجيات، وتحصين الرأي العام من الاختراقات الفكرية والثقافية التي تسعى لتفكيك النسيج الوطني. فالحرب، كما يقول "لم تعد تُشنّ بالرصاص، بل تُدار عبر الشاشات، وتُخاض في العقول قبل أن تصل إلى الحدود".
الندوة التي حملت شقين، نشّط شقها الأوّل الإعلامية المصرية لمياء محمود، الإعلامي السنغالي مختار سيلا والجزائريتان إيمان كاسي موسى وسهام شريف، حيث قدّم كلّ واحدهم منهم مقارباتهم الأكاديمية لموضوع الحفاظ على الهوية الوطنية في خضم التدفق الهائل للمعلومات على ضوء ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي من ميكانيزمات تجعل الهوية الوطنية في مرمى الانصهار أو الطمس.
آلية دفاعية ضدّ الاختراق القيمي
القسم الثاني من الندوة، خصّص للأمن الثقافي وعلاقته بالإعلام، حيث قدّم الباحث والخبير في قضايا الإعلام والثقافة، الدكتور العربي بوعمامة رؤية متكاملة حول العلاقة بين الثقافة والهوية والأمن المجتمعي. ويرى أنّ الأمن الثقافي ليس مجرّد شعار أو ترف فكري، بل هو آلية دفاعية تحفظ للمجتمع تماسكه وتقيه من الانهيار القيمي. فهو القدرة على حماية المنظومة الثقافية والفكرية من محاولات الاختراق والتغريب، سواء من الداخل، عبر فقدان الوعي بالذات والانسلاخ عن القيم، أو من الخارج، من خلال الغزو الإعلامي والثقافي الذي يسعى إلى تفكيك البنى الرمزية للمجتمعات العربية.
ويؤكّد بوعمامة أنّ الثقافة تمثّل خط الدفاع الأوّل في وجه ما يسميه "الاختراق القيمي" الناتج عن العولمة والرقمنة، معتبراً أنّ الوعي الثقافي الأصيل يمنح الشعوب مناعة فكرية أمام موجات التشويه والتزييف. فالثقافة في جوهرها، كما يقول، ليست ماضياً يُحتفى به، بل طاقة حية تصوغ الحاضر وتوجّه المستقبل.
أما الإعلام، فيحتلّ في فكر بوعمامة موقعاً محورياً داخل منظومة الأمن الثقافي، إذ يراه "الواجهة الأمامية" لهذه المنظومة، لما له من دور في صناعة الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي. ويشدّد في هذا السياق على أهمية بناء إعلام وطني قويّ، مستقل وواعٍ بمسؤوليته الحضارية، يكون قادراً على مواجهة المحتوى الموجَّه الذي يستهدف تشويه الهوية العربية والإسلامية وتغريب الذائقة الثقافية. فاللغة العربية، في نظر الدكتور بوعمامة، هي الوعاء الحافظ للهوية، وأيّ تفريط فيها يمثّل بداية الانهيار الرمزي للأمة. فاللغة، ليست أداة تواصل فحسب، بل هي مرآة للذات وذاكرة للتاريخ.
إعادة تشكيل الوعي وإضعاف الانتماء
يحذّر بوعمامة من الحروب الثقافية والإعلامية الجديدة التي تُشن بوسائل ناعمة عبر السينما ومنصّات التواصل الاجتماعي والمحتوى الرقمي الموجّه، والتي تسعى إلى إعادة تشكيل الوعي وإضعاف الانتماء. ويؤكد أنّ مواجهة هذه التحديات تتطلّب سياسات ثقافية شاملة تدمج بين التعليم والإعلام والفنون والتربية، بغية تحصين الأجيال الناشئة وتعزيز الانتماء الوطني دون الانغلاق على الذات.
في رؤيته الشاملة، يدعو الدكتور العربي بوعمامة إلى انفتاح إيجابي ومتوازن على الثقافات الأخرى، انفتاح يحترم الخصوصية ولا يذوب فيها، ويرتكز على الثقة بالذات الحضارية العربية الإسلامية. فالثقافة، كما يؤكّد، ليست فقط ما نملكه من رموز وتراث، بل أيضاً كيف ندافع عن ذواتنا في عالمٍ تتقاطع فيه العقول قبل الحدود.
أما الأستاذ عبد العالي زواغي، فربط بين الأمن الثقافي والتنمية، معتبرًا أنّ الثقافة ليست ترفًا بل عنصرًا من عناصر الاستقرار الوطني. وأكّد على ضرورة استثمار الإعلام والتكنولوجيا في خدمة الثقافة المحلية، وتطوير "مناعة فكرية" قادرة على مواجهة الحروب الناعمة والعولمة الثقافية الموجّهة، ويؤكد أنّ الثقافة أصبحت اليوم قطاعاً أمنياً حيوياً في مواجهة التهديدات الجديدة التي تستهدف الفكر والهوية. كما يرى أنّ العولمة، والإعلام الموجَّه، والتكنولوجيا الحديثة تشكّل أدوات للحروب الناعمة التي تستهدف وعي الأفراد ومعتقداتهم. لذا، أصبح من الضروري، حسبه، أن تتعامل المجتمعات مع الثقافة كجزء من الأمن القومي والتنمية البشرية، لا كترف فكري أو نشاط نخبوي.
ركيزة بقاء الهوية الوطنية
ويعتبر المتدخّل أنّ الأمن الثقافي يرتكز على أربعة أبعاد رئيسي، أوّلها البعد القيمي والهوياتي، الذي يهدف إلى حماية اللغة،التراث، والقيم من محاولات التشويه والذوبان.وثانيها البعد المعرفي والتربوي، عبر إدماج التعليم والبحث العلمي في بناء وعي ثقافي راسخ، أما البعد الإعلامي والتكنولوجي، فيتمثّل في تعزيز الوعي بوسائل التأثير الحديثة وتوجيهها لخدمة الهوية الوطنية، وأخيراً البعد الانفتاحي، القائم على التواصل الواعي مع الثقافات الأخرى دون فقدان الخصوصية الذاتية.
ويحذّر زواغي من ضعف البنى الثقافية الداخلية وغياب مشاريع التنمية الفكرية، معتبراً أن الخطر الحقيقي اليوم "لا يأتي من الحدود بل من العقول". لذلك يدعو إلى مقاومة إيجابية تُبنى على الاجتهاد والتفكير النقدي، وتربط بين الثقافة والإنتاج والتنمية.
في السياق نفسه، شدّد الدكتور محمد خوجة على أنّ الأمن الثقافي يشكّل ركيزة من ركائز الأمن الشامل إلى جانب الأمن السياسي والاقتصادي. ورأى أنّ حماية الهوية الوطنية والقيم الحضارية لا تقلّ أهمية عن حماية الحدود، داعيًا إلى سياسات تربوية وإعلامية تعزّز الانتماء وتحمي اللغة والذاكرة الجماعية.
في تحليله للمفهوم، يعرّف خوجة الأمن الثقافي بأنّه قدرة المجتمع على حماية مقوّماته الفكرية والرمزية واللغوية والدينية والتاريخية من أيّ اختراق أو تأثير خارجي أو داخلي يمكن أن يهدّد أصالته أو يضعف ارتباطه بجذوره. ويؤكّد أنّ الهوية الوطنية هي قلب هذا الأمن، لأنّها تمثّل الرابط الذي يوحّد الأفراد داخل منظومة قيمية مشتركة وتمنحهم مناعة فكرية ضدّ التبعية والاغتراب.
ويبرز خوجة دور التربية والإعلام كأداتين محوريتين في ترسيخ الأمن الثقافي، إذ يشدّد على أهمية المناهج التعليمية في تعزيز الوعي والانتماء، وعلى ضرورة أن يقدّم الإعلام خطاباً مسؤولاً يكرّس الأصالة ويحمي الوجدان الجماعي من مظاهر التبعية والانبهار بالآخر. كما يرى أنّ الإنتاج الثقافي المحلي، من كتب وأفلام وأعمال فنية، يجب أن يكون أداة لبناء الوعي والاعتزاز بالهوية.
وضع سياسة ثقافية وطنية شاملة
في رصده لأبرز التحديات الراهنة، يشير خوجة إلى مخاطر العولمة الثقافية التي تروّج لقيم استهلاكية غربية، وضعف القراءة والممارسة الثقافية في المجتمعات العربية، إضافة إلى التبعية اللغوية والفكرية، وهيمنة الإعلام الجديد الذي يعيد تشكيل الوعي وفق معايير غير محلية.
لتحقيق الأمن الثقافي المنشود، يدعو خوجة إلى وضع سياسة ثقافية وطنية شاملة، ودعم الإنتاج الثقافي المحلي، وحماية اللغة العربية والهوية الإسلامية، مع تشجيع البحث العلمي في قضايا الثقافة والهوية وفتح المجال أمام الشباب للمشاركة الفاعلة في الحياة الثقافية. ويختتم الدكتور خوجة رؤيته بالتأكيد على أن تحقيق الأمن الثقافي هو الضمان الحقيقي لبقاء الأمم واستمرارها، لأن الأمم، في رأيه، لا تُقاس بقوّتها المادية فحسب، بل بقدرتها على حماية ذاتها الحضارية وصون شخصيتها في عالم سريع التحوّل.
خلصت الندوة إلى أنّ الأمن الثقافي لم يعد مفهومًا نظريًا، بل ضرورة استراتيجية لمواجهة تحديات العولمة والحروب الهجينة. واتّفق المتدخلون على أنّ بناء وعي نقدي، وإعلام وطني مسؤول، وتربية ثقافية متوازنة، هي الأسلحة الحقيقية لحماية الهوية في زمن التحوّلات الكبرى.