معرض "مناظر بلادي" برواق عائشة حداد
حين يُفتن الفنان بسحر الطبيعة ويتشبّث بالذكريات

- 485

تعكس لوحات الفنان بن شيخ بشير، فطرة الإنسان النقية التي لم تلوّثها أدوات العصر المصطنعة، ولا الأسوار المغلقة في قلب المدن الكبرى؛ فهو لا يكفّ عن الدعوة للرجوع إلى الطبيعة، التي تترعرع بين ربوعها قيم الحرية، والخير، والجمال، وكل علاقات إنسانية متينة. كما تحمل أعماله جانبا من ذكريات الصبا، وما فيها من يوميات وأحداث وأماكن، بقيت محفورة، تخرجها الريشة متى أراد الفنان بن شيخ.
يقيم الفنان معرضه "مناظر بلادي" برواق عائشة حداد إلى غاية 17 جوان الجاري. وهو يتضمن 26 لوحة، أغلبها بالأسلوب الانطباعي. وتحدّث الفنان إلى "المساء" عن أعماله التي يرتبط بها كثيرا، ذلك لأنها تمثل جانبا جميلا من ذكرياته في ريف صدوق ببجاية؛ حيث الطبيعة البديعة، التي تتجلى فيها عظمة الخالق.
ذكريات من زمن الثورة
رجع الفنان في حديثه إلى الذكريات، وبالضبط مسقط رأسه بصدوق، ليتوقف عند أيام خلت عاشها مع أهله وسكان القرية، من ذلك ما عاشه من ويلات إبان حرب التحرير حين كان لايزال تلميذا بالمدرسة ليقول: "أتذكر تلك الفترة جيدا. كانت مؤلمة لنا. لقد كنا نسمع صرخات من تعذبهم فرنسا في القرية، وكان أشبه ذلك بالرعب! كذلك ذكرياتي بالمدرسة في القرية التي كان يدخلها الضباط الفرنسيون بسلاحهم بهمجية، أمام التلاميذ الصغار.
وفي أحيان أخرى كان الرصاص يتطاير قرب النوافذ؛ ما جعل أولياءنا يمنعوننا عن الدراسة؛ خوفا علينا. وأذكر أننا عدنا للدراسة بعد أسبوع، وتعرضنا للمساءلة. ذكريات أخرى لا تفارقني؛ لذلك فإن مسقط رأسي لا يفارقني". للإشارة، فإن أغلب اللوحات كانت عن صدوق، وبجاية عموما، التي حباها الله بطبيعة فاتنة.
وأبدع الفنان في تصوير اليوميات القبائلية الأصيلة، مؤكدا لـ "المساء" أن تلك الحياة البسيطة والجميلة اختفت بعض معالمها اليوم بفعل التمدن والعصرنة. ورغم تقدمه في السن لايزال يعيش الأيام الخوالي التي يراها أجمل، وانعكس أثرها على نفوس الناس، خاصة القرويين البسطاء، الذين تشبّعوا بالقيم وبالعادات والتقاليد، وغيرها من الحرف، مع التفاني في خدمة الأرض، لتتوطد العلاقة بينهم وبين الطبيعة التي حافظوا عليها، واستلهموا منها الجمال، وحب الوطن.
وقوف على أدق التفاصيل
يحاول الفنان من خلال الأسلوب الانطباعي والتصويري، أن يقف على أدق التفاصيل، ليصور بريشته، حياة القرويين والفلاحين في المشاهد اليومية المتعلقة بالحرث، والرعي، وجني الزيتون، والنسيج، والطهو، وجلسات السمر، وخرجات صيد الأرانب في الغابات المكللة بالثلوج والصقيع. ومشاهد أخرى حكاها الفنان حين توغله في هذه الجنان؛ منها مغارة عجيبة قُتل فيها الشهداء إبان الثورة حين حاصرهم العدو. وتبدو اللوحات وكأنها مرشد سياحي.
وأثناء جولته بالمعرض رفقة "المساء" ، أشار الفنان بن شيخ إلى أنه يظل دوما يحن للبيئة، ولحسن الطبيعة الجزائرية باختلاف مناطقها من التراب الوطني الشاسع، علما أنه يعشق كل ما هو أصيل وماض لم تطله يد الإسمنت المسلح، ولا المظاهر الدخيلة، والفوضى العارمة التي تشوّه الذوق.
واستعرض الفنان بعض لوحاته الجميلة، وأغلبها لقرى الريف القبائلي، وما فيها من دروب ومسالك نحو الجبال والسهول الخضراء الممتدة والغابات، مع اكتساح المروج وما فيها من زهور ملونة، قائلا إنها مبهرة أكثر على أرض الواقع، ولا تحتاج لأن يبالغ الفنان في تزيينها؛ فهي، كما قال، ترسم نفسها بنفسها وليس له ما يضيفه إلا بعض رتوشات فنية بسيطة؛ لجلب المشاهد كي يُفتن بدوره أيضا.
وتبرز في اللوحات مشاهد جني الزيتون، والحصاد، والرعي، والرحلة إلى سوق المدينة عبر المسالك الوعرة برفقة البغال، ومتعة الذهاب إلى غابات الصفصاف، والجلوس قرب الجداول، وصولا إلى وادي الصومام " الأشهر من نار على علم " ، وغير ذلك، مع ظهور ملفت للمرأة القروية، التي تشق المروج والغابات لتحمل الحطب، أو تمارس الفلاحة، أو تجلب الماء، ناهيك عن لوحات تبرز شؤونها الأسرية؛ كتحضير الطعام، أو طحن الغلة.
وقال الفنان إنه ملتزم لأكثر منذ خمسة عقود، بهذا المضمون في اللوحات؛ لأنه يبرز، بحق، خصوصيتنا الجزائرية الأصيلة، التي ينبغي تثمينها عوض الجري وراء أمور زائلة، مؤكدا أن الفنان بإحساسه هو المعبّر عن هذا الماضي الجميل، وهذا التراث الوطني الزاخر، ويدقق في ما لا يراه الآخرون.
حكاية أخرى مع العاصمة
حكاية أخرى جمعته بمناطق أخرى، منها العاصمة، التي جسد منها البحر في هدوئه وهيجانه، ومشهد الغروب بميناء عين البنيان. ثم لوحة غسل الملابس على ضفاف النهر بمنطقة بوسعادة. وعاد الفنان إلى أيام شبابه حين تكوَّن بمدرسة الفنون الجميلة سنة 1965 بالجزائر الوسطى (من مواليد سنة 1944)، وكيف أنه اختار الطبيعة، وظل ملتزما بها حتى اليوم. كما ظل يحبّبها لأبنائه منذ الصغر، الذين يحملهم معه ووالدتهم إلى البراري، ليلعبوا، ويمرحوا، وليمارس هو هواية الرسم. وعن الألوان المفضلة عنده قال إنه يفضل الأخضر رمز الطبيعة، والأزرق؛ لأنه يمثل سماء الجزائر، مؤكدا أنه سيظل مولعا بطبيعة الجزائر، يحملها معه أينما حلّ وارتحل.