الفنان التشكيلي سعيد لمو

حين تتحوّل المنمنمات إلى مرآة للروح القسنطينية

حين تتحوّل المنمنمات إلى مرآة للروح القسنطينية
  • 167
سميرة عوام سميرة عوام

في عتمات التفاصيل الصغيرة حيث تتراقص الألوان على إيقاع الزخرفة الدقيقة، ينبثق اسم سعيد لمو، الفنان التشكيلي، وأستاذ معهد الفنون الجميلة بعنابة، كأحد أبرز الوجوه التي أهدت المنمنمات حياةً جديدة، وهو الذي جعل من هذا الفن ليس مجرد تراث بصري، بل تجربة شعورية وإنسانية متكاملة.

ولد الفنان سعيد لمو في مدينة قسنطينة، المدينة التي لا تكتفي بكونها شاهدة على التاريخ، بل تشارك في تشكيله من خلال عمارتها الشامخة، مساجدها ذات النقوش المتشابكة، وأزقتها التي تفيض بالفن من كلّ زاوية. وسط هذه البيئة الزاخرة، نشأت موهبته ونمت بهدوء كالبراعم، إلى أن أيقظها شغف دفين بالفن الشرقي، تحديدًا فن المنمنمات.

من التقليدي إلى المعاصر.. تطوّر الرؤية الفنية

في بداية مشواره، انغمس سعيد لمو في عالم المنمنمات التقليدية، ذلك النمط الذي يقوم على الدقة المفرطة، وضبط التفاصيل، والالتزام الصارم بالقواعد التي تحدّد الشكل والمضمون. وقد تأثّر في هذه المرحلة بالفنان الجزائري الكبير محمد راسم، الذي يُعدّ أحد مؤسّسي هذا الفن في الجزائر. ومع مرور الزمن، بدأت روح الفنان تتمرّد على الحدود الصارمة، متّجهة نحو فضاءات أوسع من الإبداع.

هكذا، انتقل الفنان إلى المنمنمات العصرية، التي رأى فيها ملاذًا للانطلاق، ومساحة لتحرّر الريشة من كلّ قيد. في هذا الاتجاه، لم يتخلَّ عن روحه القسنطينية ولا عن المرجعيات البصرية التراثية، لكنه ألبسها حُلّة جديدة تعبّر عن حسّه الفني المعاصر، ليتحوّل العمل الفني إلى فضاء حُرّ، تتنفس فيه الروح وتبوح فيه التفاصيل بما يخفيه الجمال من معانٍ.

قسنطينة...نبع دائم للإلهام

قسنطينة بالنسبة للفنان سعيد لمو ليست فقط المدينة التي نشأ فيها، بل هي المصدر الأول للإلهام، ومنجم الصور والألوان. الزخرفة العربية الإسلامية في بنيانها، والنقوش التي تزيّن المساجد، وحتى الإكسسوارات النحاسية التي تتخللها فسيفساء متقنة، كلّ هذه العناصر كوّنت حسّه الفني، ورسّخت فيه ولعًا عميقًا بتلك التفاصيل الصغيرة التي تخفي وراءها عالماً من الإبداع.

يؤمن التشكيلي أنّ المنمنمات لا تنفصل عن الواقع، بل تنبع منه وتعيد تشكيله من خلال عين الفنان. لذلك، كثيرًا ما تتجلى في أعماله العادات القسنطينية كاللباس التقليدي، الحلي، والعمارة القديمة، في محاولة لإعادة بعث التراث من جديد، لكن بمنظور معاصر يُدهش العين ويمسّ الروح.

الفن...رسالة وتربية

لم يكتفِ لمو بدوره كفنان، بل أراد أن يساهم في تكوين أجيال جديدة تؤمن بالفن وتُتقنه. ومن خلال عمله أستاذًا بمعهد الفنون الجميلة بعنابة، يسعى إلى غرس ثقافة البحث الفني، وتشجيع الطلبة على استكشاف تفاصيل اللوحة والغوص في أعماق التعبير البصري.

يقول الفنان إنّ هناك تحوّلاً ملحوظًا في ذائقة الجيل الجديد، إذ أصبح كثير من الطلبة يميلون إلى التعبير التشكيلي المعاصر، مع الحرص على الاحتفاظ بجمالية التفاصيل ودقة التنفيذ، وهو ما يعكسه تأثرهم به وبمدرسته الفنية.

شارك التشكيلي في العديد من المعارض المحلية والوطنية، لكن مشاركته الأخيرة في معرض اللوحات الفنية بمناسبة اليوم الوطني للفنان كانت ذات خصوصية، إذ طغت على لوحاته الهوية القسنطينية، بكلّ ما فيها من دفء وعراقة. جسّد من خلالها تقاليد المنطقة وطقوسها، من اللباس التقليدي إلى الأواني التراثية، ليؤكّد أنّ الفن هو وسيلة فعّالة لحفظ الذاكرة الجماعية وتكريم الجذور.

خلاصة التجربة

مسيرة سعيد لمو ليست مجرّد رحلة في عالم الرسم، بل هي بحث دائم عن الجمال وسط الفوضى، عن الهوية وسط العولمة، وعن الذات وسط العالم. لقد استطاع أن يجعل من المنمنمات فناً نابضًا بالحياة، لا يُسجن في الماضي بل يتحرّك بخفة نحو المستقبل.

هو فنان لا يرسم فقط، بل يبني عوالم من الضوء والظلّ، من الذكرى والنسيان، ومن الدقّة والتعبير. وفي كلّ لوحة من لوحاته، يسمع المتأمل همسات مدينة قسنطينة، تبوح بأسرارها لمن يعرف كيف يقرأ اللغة السرية للزخرفة.