ندوة "محمد أركون ونقد الفكر الدوغمائي" بالجاحظية
تحرير للعقل وتفصيل في مشروع الأمير عبد القادر النهضوي

- 143

لم تكن نهاية مباراة جمعية وهران وشبيبة الأبيار التي جرت بملعب "الحبيب بوعقل" برسم الجولة الثانية من بطولة القسم الثاني للهواة، مفرحة للأنصار "الجمعاوة"، الذين صُدموا بتعادل بحجم الهزيمة لفريقهم، فرضه عليهم ضيفهم العاصمي، الذي كان ندا قويا حتى وهو في نقص عددي لقرابة 40 دقيقة، بعد طرد لاعبه بومليط لحصوله على بطاقتين صفراوين، وعجز الجمعية عن استغلال هذا الشيء بالنسبة للأبيار، من أجل تحقيق فوز ثان على التوالي، تؤكد به انطلاقتها الناجحة من بوابة شباب تموشنت.
أشار المحاضر إلى أنه استحضر عند دعوته لهذه المحاضرة كتاب أركون المعنون "تحرير الوعي الإسلامي، نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة" بترجمة هاشم صالح، حيث خصّص أركون في الفصل الثاني المعنون "إعادة التفكير مجدّدا في المفاهيم الرئيسية الثلاثة دين دولة دنيا، عنوان فرعي موسوم بـ "الأمير عبد القادر الجزائري صورة شخصية"، وبالتالي وقف الأستاذ بوسعدية في الندوة عند "نقد الفكر الدوغمائي: الأمير عبد القادر في مرأة الفكر الأركوني بين التاريخ والذاكرة الجماعية نموذج لنقد الفكر الدوغمائي".
المشروع الفكري لأركون
لخّصت هذه الندوة المشروع الفكري لمحمد أركون، حيث أنّ "آلية النقد" تمثّل المنهج الرئيس في فكر أركون، فقد استعمل النقد التاريخي والنقد الأنثروبولوجي والنقد الألسني والنقد المعرفي الفلسفي قصد تحليل الفكر الدوغمائي (تفكير يقيني جزمي أو تعسفي يعكس حالة من الجمود) وتفكيكه وزحزحته، وهذا الأخير أي الفكر الدوغمائي لا يقتصر على التراث العربي الإسلامي كما يظنّ أغلب جمهور المسلمين، بل إنّ الفكر الدوغمائي أو السياج الدوغمائي المغلق يشمل كلّ مذاهب الأديان التوحيدية والوضعية، وكلّ المذاهب الفلسفية المغلقة، وكلّ المنظمات الدينية والسياسية والنقابية التي لا تقبل النقاش وترفض الآخر، وتعتبر دينها أو فكرها أو مذهبها هو الحقيقة المطلقة.
في هذا الإطار، لم يتردد أركون في انتقاد العلمانية باعتبارها مذهبا مؤدلجا مغلقا، لا يقبل النقاش حول الأديان على سبيل المثال . حاول أركون أيضا قراءة شخصية الأمير عبد القادر وفق المنهج التاريخي والأنتروبولوجي ليقدّم لنا قراءة نقدية مغايرة لما اعتاد عليه الآخرون.
فكّك أركون، حسب المحاضر، فكر التراث العربي الإسلامي وما أحاطه من سياج مغلق غير قابل للنقد والتحليل، محاولا قراءة فكر الأمير عبد القادر وفق المنهج التاريخي الانثروبولوجي بقراءة جديدة ومغايرة، من ذلك مشروع الأمير النهضوي في بناء الدولة الجزائرية الحديثة غير أنّ هذه القراءة، يضيف المحاضر، لا تعني أنّها الحقيقة المطلقة، بل تبقى بدورها قابلة للنقد والمساءلة، حتى نتجنّب الوقوع في سياج دوغمائي جديد.
بورتريه الأمير
قدّم المحاضر عرضا لأركون هو عبارة عن بورتريه للأمير عبد القادر استقاه من الباحث إيلي خدوري، الذي ساهم بدراسة ضمن كتاب جماعي بعنوان "الإسلام بالأمس واليوم"، أنجز تحت إشراف برنارد لويس وصدر سنة 1976، وقد حملت دراسة خدوري عنوان "الإسلام اليوم مشاكل ومنظورات القرنيين التاسع عشر والعشرين"، و هذا البورتريه مأخوذ من مقال الخدوري نشره بمجلة "آفاق" العراقية فيه صورة شخصية تتّسم بالواقعية من جهة وبالتبجيل من جهة أخرى، وأنّه يعيش في بساطة لا متناهية واعتدال وزهد وقناعة وأما لباسه فهو في غاية البساطة والتواضع وهو يستيقظ في وسط الليل لكي يتهجّد إلى الله ويتعبّده ويطلب منه الرحمة لنفسه ولأنصاره وسعادته الوحيدة هي أن يصلي ويتضرّع إلى الله ويصوم لكي يغفر له الله ذنوبه وكلّ عدا ذلك تفاصيل بالنسبة إليه.
في المجلة العراقية "آفاق" يتناول خدوري شخصية الأمير لا بوصفه قائدا عسكريا فحسب، بل باعتباره نموذجا فكريا وسياسيا يعكس أزمة العالم الإسلامي في القرن الـ19 في مواجهة التوسّع الأوروبي، فالأمير، حسب خدوري، جسّد محاولة لبناء دولة حديثة، كما يبرز خدوري الخلفية الصوفية للأمير، بوصفه منتميا للطريقة القادرية، وهو ما انعكس على فهمه للسلطة والدين، فقد جمع بين الشرعية الدينية المتمثّلة في "الجهاد والإمامة" وبين أدوات الحكم الواقعية مثل الإدارة المركزية وتنظيم الجيش، وبهذا اعتبره خدوري من أوائل الذين حاولوا "إصلاح الفكر الإسلامي من الداخل، قبل بروز حركة الإصلاح الحديثة مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
يقول أركون، حسبما ذكره الأستاذ بوسعدية "عندما نتأمّل بورتريه الأمير، نرى أنّها مستلهمة مباشرة من قبل شخصية النبي ومحاكاة نموذجه الأعلى وممارسته العملية والسياسية التي أدت إلى تشكيل أول دولة إسلامية في المدينة"، وكان هدف الأمير حسب أركون هو تشكيل دولة إسلامية في الجزائر بين عامي 1832 و 1847 وذلك على غرار الدولة التي أسسها النبي قبل ثلاثة عشر قرنا، وحاول توحيد القبائل الجزائرية من أجل تشكيل دولة قائمة على الإخاء، وهي دولة تتجاوز كلّ العصبيات القبلية والعشائرية لكي توحّد الجميع على أرضية عصبية أوسع هي العصبية الدينية الإسلامية وهذه الدولة التي أراد الأمير تشكيلها مستلهمة مباشرة من قبل المبادئ الأخلاقية القرآنية، وبالتالي فقد كان الأمير يتصرّف وفي ذهنه صورة النبي محاولا تقليدها حرفيا بقدر الإمكان.
يرى أركون أنّ هذه التجربة تحوّلت إلى نموذج مثالي أعلى في نظر جميع الأجيال اللاحقة من المسلمين، ويمكن القول إنّ هذا النموذج المثالي الأعلى ناتج عن التصوّر الاسترجاعي لهذه التجربة الدينية السياسية والصراعية التاريخية من قبل المخيال الجماعي المشترك للأمة، ويقصد بالتصوّر الاسترجاعي هنا، أنّ المسلمين شكلّوا هذه الصورة النموذجية المثالية بعد انتهائها بزمن طويل نسبيا عندما ابتدأت عملية تدوين التراث.
للإشارة، شهدت الندوة حضورا كبيرا من جمهور النخبة منهم فلاسفة وأدباء وروائيون وباحثون تدخّلوا أثناء المناقشة، كان منهم من دعا إلى ضرورة إعادة قراءة فكر أركون بعيدا عن الأحكام المسبقة والتأويلات الجاهزة .