"لا كاسا" لأكسيل مونتويا
بيت الذكريات والجراح الصامتة

- 158

احتضنت قاعة السينماتيك بالجزائر عرض الفيلم الإسباني "لا كاسا"، أول عمل طويل للمخرج أكسيل مونتويا، ضمن تواصل مهرجان الفيلم الأوروبي، الذي قدّم للجمهور الجزائري تجربة حسّية وعاطفية تمسّ عمق العلاقات العائلية، وتجسّد بدقّة مشاعر الحنين، الغياب، والصمت الذي يسكن الأمكنة بعد رحيل من أحببناهم.
الفيلم مقتبس من الرواية المصورة الشهيرة للكاتب باكو روكا، ويحافظ على روحها التأملية، حيث تدور أحداثه في منزل ريفي بإسبانيا، يجتمع فيه ثلاثة إخوة بعد وفاة والدهم، من أجل ترتيب أغراضه وبيع البيت. ما يبدأ كعملية لوجستية تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مواجهة مع الماضي، مع الطفولة، ومع الجراح والصراعات الخفية التي لم تُحل.
«لا كاسا" ليس فيلماً عن الأسرار الكبرى أو التحولات الدراماتيكية. إنه عمل هادئ، يتنفس في تفاصيله الصغيرة، ويروي بحساسية قصة الفقد، الغياب، والرغبة في الحب والمغفرة رغم كل شيء، هو فيلم عن الأب الذي لم يقل كثيراً، وعن الإخوة الذين كبروا على خلافه، وعن البيت الذي ظل شاهداً على كل ذلك، محتفظاً بذاكرته في كل ركن وزاوية.
كلّ أخ من الإخوة الثلاثة ينظر إلى هذا المنزل من زاوية مختلفة أحدهم يرى فيه إرثاً عاطفياً يصعب التفريط فيه، والثاني يرغب في طي الصفحة والمضي قدماً، أما الثالث، فهو ممزق بين الحنين والرغبة في الاستقلال، تعكس هذه الاختلافات عمق شخصياتهم وتعقيد علاقاتهم، ويشكّل المنزل بذلك مسرحاً لاسترجاع الذكريات وإعادة النظر في ما فاتهم قوله لبعضهم البعض. تُضفي شخصية الجار العجوز، صديق الأب الراحل، لمسة إنسانية على القصة، إذ يمثل ذاكرة الحيّ ومرايا الماضي، ويشارك الإخوة ببعض الحكايات والتعليقات التي تكشف جوانب خفية من شخصية والدهم، وجوانب كانوا قد نسوها أو تجاهلوها.
يعتمد مونتويا على الإيقاع البطيء، حيث تتقدّم الأحداث عبر تفاصيل بسيطة: تشغيل راديو قديم، فتح خزانة مهملة، تنظيف حديقة مهجورة. كلّ حركة صغيرة تُعيد إلى السطح عواطف مدفونة. وتبرز براعة المخرج في التقاط الصمت، في نظرة ضائعة أو في ضوء الشمس المتسلّل إلى غرفة خاوية.
البيت في هذا العمل ليس مجرد مكان، بل هو كائن حيّ، شاهد على سنوات من الفرح، والخلافات، والصمت، والحب المكبوت، الصورة السينمائية تعتمد على الإضاءة الطبيعية، مما يمنح الفيلم طابعاً زمنياً خارجاً عن الحاضر، ويخلق جواً حميمياً يلامس المتلقي دون مبالغة درامية. أما الموسيقى، فهي خافتة، تترك مجالاً لصمت ثقيل مليء بالمعاني. أداء الممثلين، ورغم أنهم ليسوا من الوجوه المعروفة جماهيرياً، جاء صادقاً وعميقاً، فهم يجسّدون بمهارة أناسا يعيشون مشاعر متضاربة، يحملون في قلوبهم ندم الماضي، وحاجة دفينة للمصالحة. تلك المصالحة لا تأتي عبر الحوارات المباشرة، بل عبر لحظات الصمت، عبر وجودهم المشترك داخل جدران كانت تؤوي طفولتهم.
وقد لاقى الفيلم (انتاج 2024، 84 دقيقة) تفاعلاً لافتاً من الجمهور الجزائري في قاعة السينماتيك، حيث بدت التأثرات واضحة على وجوه المشاهدين، وتجلّت في التصفيق الحار بعد العرض. فالرسائل التي يحملها "لا كاسا" تتجاوز حدود اللغة والثقافة، وتلمس تجربة إنسانية عالمية العودة إلى بيت الطفولة لمواجهة الذاكرة، ومواجهة الذات.