معرض "وتد الزيتون" برواق محمد راسم
المعنى يسبق اللون وغزة بأطياف الشجن
- 400
مريم. ن
يتواصل برواق محمد راسم بالعاصمة، معرض "وتد الزيتون" للفنان التشكيلي نور الدين كيشو؛ حيث تتجلى الطبيعة الساحرة، والتراث الزاخر، وذكريات الطفولة الراسخة بكل ألوانها وتفاصيلها الممتعة، فيما تصدرت غزة بآلامها، ومأساتها مع الحرب، والتجويع، والتهجير، جناحا مهمّا في المعرض.
استقبل الفنان كيشو "المساء" في معرضه الذي يمتد إلى غاية 21 ديسمبر الجاري، متجولا عبر الأجنحة المرصعة بلوحاته ذات لمسة احترافية، مع إحساس عال، وذوق رفيع مع طيف من الشجن في لوحات غزة الجريحة. وسألت "المساء" الفنان عن عنوان المعرض "وتد الزيتون"، ولماذا تم اختياره، فردّ بأن ذلك راجع إلى رمزيته؛ فجذع الزيتون باق في الأرض مهما احترق أو انقطع، ليعود للحياة مجددا.
وأضاف: "الزيتون هو، أيضا، رمز للصمود؛ فهو مقاوم للجفاف، ولكل الظروف القاسية. زد على ذلك، فهو، أيضا، رمز للسلام، وللتشبث بالأرض، ناهيك عن كونه شجرة مباركة ذات دلالات سامية". وأكد الفنان كيشو أن معرضه يضم 45 لوحة، من ذلك جناح خاص بغزة، زيادة على تقديم لوحات في التراث الجزائري من لباس ومعمار كبيوت القرميد وغيرها من صور الهندسة العتيقة التي افتقدها محيطنا اليوم بعدما حلت مكانها الفوضى في العمارة.
وبالنسبة للمناظر الطبيعية فقد اختار أغلبَها من مسقط رأسه بتيزي نبشار بولاية سطيف. أما عن الأسلوب الذي اختاره فهو مزيج بين الواقعية والانطباعية. وهي مدارس فنية عريقة، تأثر بها الفنان كثيرا ـ كما قال ـ رغم أنه درس الأسلوب التجريدي، واشتغل فيه، معقبا: “من لم يدرس ولم يمارس الأسلوب الواقعي يبقى عاجزا، وبالتالي يتدارى وراء التجريدي من دون تمكن، فتظهر لوحات مائعة". وبالمناسبة، قال الفنان إنه يعمل بحرية؛ فالفنان لا يحب من يفرض عليه أسلوبا معيّنا؛ فهو وحده من يختار، ويبدع.
ذكريات من قرية أولاد عيسى
أغلب لوحات الطبيعة الفاتنة اختارها الفنان من مسقط رأسه بقريته بسطيف؛ حيث الاخضرار والمروج والثلوج والمياه العذبة الرقراقة، من ذلك واد البارد، ومنبع الشلال حيث تلتقي النسوة حاملات معهن قصصهن وغيرها من المشاهد. وقد لا يصدق الناظر أنها من الجزائر إلى درجة أن أحدهم جادل وقال إنها من أوروبا.
ومن اللوحات المعروضة لوحة “زهرة الخلة” ، وهي نبتة مخصصة للتداوي متوارَثة من الطب الشعبي، وصفها الفنان بالرحمة الكامنة في الطبيعة؛ إذ تتحول هذه النبتة الصغيرة إلى استعارة للمداواة بأوراقها الدقيقة، ومظلاتها الخضراء. تنفتح على آفاق التعافي، لتتمم بذلك فكرة المعرض القائمة على التوازن بين مقاومة الكوارث، وتشييد مقومات الحياة اليومية، حيث تعد العافية فعلا مقاوما في حد ذاته، تحافظ على سلامة الجسد، ليظل الصوت عاليا، شاهدا على الحياة والوجود. وغير بعيد هناك لوحة “الخفراء” (الخجولة)، التي تظهر ضمن أخريات من نسوة القرية.
سطيف أصالة وحداثة
تجمع لوحة "سطيف بين الترامواي الحديث والمسجد العتيق" بين الحاضر المتحرك والماضي العريق، المتمثل في المسجد الذي يقع وراء التراموي ، وليس ذلك تناقضا ـ كما يفسر الفنان ـ بل امتداد؛ إذ تتقاطع السكك مع المآذن لتدل على مدينة تعرف موقعها من الزمن، تتقدم دون أن تدير ظهرها للماضي.
وتتوالى اللوحات السطايفية من خلال "شقائق النعمان"؛ حيث تشع الألوان بسيادة الأحمر. هذا اللون الذي يرمز للتضحية. ويرمز، أيضا، للحياة في كامل بهجتها وزينتها في أحلى أزمنة العمر. وهو الربيع سيد الفصول كلها. هذه النباتات الفاتنة تزهر هنا وهناك حتى في التخوم، وعلى حافات الطرق؛ ما يدل على أن الحياة تستمر وتزهر حتى في أماكن مهجورة لا رعاية بشر فيها.
لوحة أخرى بها أشجار مكسوة بوشاح الثلج، تعيد ضبط نبض القلب، وتزيح عنه الضغط الساخن، وترفع عنه أذى الضجيج. وما يزيد المنظر بهاء هو تمايل الأغصان، ورقصها المحتشم متبخترة في هذا الزي الشتوي الناعم. ووصف الفنان اللوحة بكونها استراحة لونية من صخب الألوان؛ فالأبيض سلام وهدوء. وربط ذلك بالأرض التي تفور بالأحداث والنار والدم. ثم تهدأ لتداوي الجراح بذلك البرد والسلام.
غزة ضيفة شرف المعرض
استمد الفنان عنوان معرضه من لوحته "وتد الزيتون"، تظهر فيه امرأة فلسطينية تحتضن شجرة الزيتون المقطعة، متألمة لما يجري. وهناك يركن الجنود الإسرائيليون سيارتهم بعدما ارتكبوا هذه الفعلة.
وكتب الفنان قرب هذه اللوحة التي تصدرت المعرض: "في غزة الجريحة من فلسطين المحتلة على تراب أثقلته سنون الحصار، كما لو أنها تعانق قلب التراب ذاته. في هذا العناق الممتد على الثرى، لا يبدو الجذع خشبا باردا، بل كائنا يتنفس من بين تجاعيد يديها، فتغدو الشجرة جسدا ثانيا لها. وتغدو هي جدارا إضافيا يشده للحياة. الزيتونة ليست شجرة فحسب، بل سيرة وطن ممتد بين الحلم والمنفى، بُترت أعضاؤها، لكن جذعها بقي مغروسا كالوتد. وهو علامة على أن ما يُسقطونهم بفؤوسهم يقوم في الداخل أكثر ثباتا". وعن القضية أشار الفنان إلى أنها موقف ومعنى تتعدى الإبداع الفني المحض، معلقا: "تُعرض هذه الأفكار بصياغة أصلية دون نقل أو اقتباس مباشر، وبانفتاح على سرديات فلسطين، وأبناء غزة. وكل مقاومة تسعى إلى حياة كريمة".
لوحة أخرى تطرح حوارا رمزيا يربط بين الثورة الجزائرية ونضال غزة، فالراية الوطنية تذكّر برايات المجاهدين الجزائريين. وتقابله، اليوم، رايات الفلسطينيين وهي ترفرف من تحت القصف والحصار في غزة، حيث تدفع ثمن الحرية دماء الأطفال والمدنيين. وظلال الشهداء الجزائريين تتقاطع مع ظلال شهداء غزة، الذين يُدفنون تحت الركام، مؤكدة أن الصبر والصمود والمقاومة هو العامل المشترك نحو الحياة بعيدا عن الاحتلال، والهيمنة البغيضة. لوحات أخرى مؤلمة تصور مأساة الفلسطينيين، منها النزوح الجماعي (ذاكرة الطريق)، والمجاعة، وغيرها من مشاهد القصف، والدمار.