"ألوان البهجة" بفضاء منتوري

العاصمة غاب عنها الملحون وطُمست فيها العيون

العاصمة غاب عنها الملحون وطُمست فيها العيون
  • القراءات: 915
مريم. ن مريم. ن

استضاف فضاء النشاطات الثقافية "بشير منتوري"، أول أمس، الباحثين أحمد قريقا، ومهدي براشد، ونور الدين لوحال، ضمن لقاء بعنوان "ألوان البهجة"، عُرضت فيه جوانب من التراث الثقافي لمدينة الجزائر، المعروف بروائعه التي واكبت مختلف الحقبات والأحداث.

استهل الدكتور قريقا مداخلته "شعراء الملحون في الجزائر العاصمة"، بالتأكيد على حضور الشعر الملحون عبر كافة مناطق الجزائر من وادي سوف إلى مغنية. وفي هذا الفن الشعري هناك أسماء كبيرة منها بن خلوف وابن تريكي وبن قيطون وبن سهلة وغيرهم، غير أن المتدخل ذكر أن العاصمة غير معروفين شعراؤها. وبقي السؤال مطروحا: "أين هو الشعر الملحون في العاصمة؟"، فلجأ الدكتور قريقا إلى البحث، علما أنّ هناك أنواعا من الزجل في العاصمة قريبة من اللغة الدارجة، ومنها ما هو ذو أصل أندلسي؛ كالموشّح والزجل، إضافة إلى البوقالات المرتبطة بالنساء، وغير المعروفات صاحباتها، والرباعيات لسيدي عبد الرحمن المجذوب، والأمثال، وأشهرها التي قالها سيدي أحمد بن يوسف، وغيرها من الكلام الموزون أو المسجوع.وأشار الباحث إلى أن الموسيقى الأندلسية بها العديد من القصائد في الانصرافات، والانقلابات، وبعضها يُعرف صاحبها بذكر اسمه في النص؛ كـ "يا من بالأوزار" الشهيرة لابن عنتر، و"أنا العبد المسكين" لبن أنيسة.

وهناك ابن شقاع، وابن عباس، ومحمد بن سماية، وغيرهم من الشعراء، وهم جزائريون، وبعضهم يرجع أصله إلى الأندلس. وتلك القصائد تبقى من نوع الزجل. وأقدم قصيدة في الشعر الشعبي عن الجزائر العاصمة، وصف فيها الشاعر ولد اعمر، هجوم الدنمارك على الجزائر في القرن 18، تحدّث فيها عن المقاومة، وهي بمثابة وثيقة تاريخية مهمة. وقصيدة إدريس أحمد العلمي "العذراء الجزائر" الشهيرة. وهناك أربع أو خمس قصائد عن احتلال الجزائر من طرف الجيش الفرنسي، واحدة لعبد القادر الوهراني. وهناك قصيدة لشاعر مجهول يذكر أسباب الاحتلال الفرنسي، وأخرى للشاعر عدّة البشير 1830، وقصيدة أخرى تعبّر عن الرأي العام الجزائري في الحرب العالمية الأولى، تشبه "قالوا العرب قالوا"، تقول: "يا لفرنسيس واش في بالك يجي لالمان يديهالك".

وعدّد المحاضر قائمة شعراء مدينة الجزائر، منهم الزجالون، وآخرون علماء دين وأهل فتوى(الفتاوة)، كتبوا بالفصحى أيضا، منهم مصطفى القبابطي مع "يا حمام"، والشيخ مخلوف بن الشاهد، وأحمد بوقندورة مفتي الحنفية في نهاية القرن 19، وعلي بلحفاف مفتي المالكية بالعاصمة. وهناك قصائد "التنبؤات"، منها واحدة لسيدي عبد الرحمن الثعالبي (المغيش). وهناك الشاعر المعروف ابن إسماعيل وابنه قويدر، وأيضا محمد بن لكحل، وقدور بن قادي، ومحمد بن سيدمو، ومصطفى بوطوشة، ودريوش وعلي فضي، وكوشين وقلاتي، والزاوي، وعبد القادر الزواوي، وصولا إلى الهاشمي قروابي، والعنقى، ومحمد ونيش، وعمر راسم، وعشرات الشعراء من القرنين 19 و20. وحاليا هناك ياسين أوعابد، ورابح حوشين.وتحدّث المحاضر عن بن يوسف بـ 20 قصيدة نُسبت له، منها المولوديات، وكذلك القبابطي المرتبط بالجزائر وحبها.

وهناك محمد بن إسماعيل من واد الرمان المعروف بوصفه حرب القرم، وبقصيدة رمضان، وكذلك علي بلحفاف وبعض أصدقائه، الذين التحقوا بمقاومة الأمير عبد القادر، وكذا قدور بن إسماعيل، الذي عاصر العنقى، وكان موسيقيا، وعُرف، أيضا، بـ"مولى مكناس"، ومصطفى دريوش بـ 4 قصائد مشهورة؛ منها "الأطعمة الجزائرية" في القرن 19، وهو ذو أهمية توثيقية، ورشيد القسنطيني الذي استغل قصائده في المسرح مع باشطرزي، وصدر له ديوان، والعنقى وله 300 قصيدة، منها "وين سعدي"، والمندوزة"، والشاعر زروق الشبيه بلخضر بن خلوف، وأحمد الفليسي مع "سبع عيون"، ومصطفى بن بيرم، وبلحسن من البليدة، وبلقاص، والبريطي. وقال المحاضر إنه استقى في بحثه، من معجم أمين دلاي لشعراء الجزائر، ومن بعض المخطوطات.

وذكر الأستاذ مهدي براشد بعضا من أقدم نصوص بن خلوف، وهي النصوص الأولى للملحون المغاربي ككل، مؤكدا أن الزجل لا يدخل في الملحون والبوقلات. والملحون، حسبه، موجود في نصوص العاصمة؛ بدليل أن قدور بن إسماعيل استعمل في قصائده الملحون، لكن الشعر كان قليلا بالعاصمة، ولم يكن وجود لحركة شعرية كما هي في الغرب والجنوب الجزائري. والسبب أن العاصمة لم تكن حاضرة ثقافية في القرون الوسطى أو في العهد العثماني، مثلما كانت الحال في تلمسان وبجاية. والبعد الثقافي بدأ مع الثعالبي، فذهب الشعر في اتجاه واحد ديني، فقلّ الشعراء. وأشار المتحدث إلى إعجابه بقصيدة "الفراق" للشيخ محمد بن إسماعيل التي أداها العنقى، وتنطبق عليها مقاييس الشعر الملحون حتى على مستوى التصوير، وكذا قصيدة أخرى أثارت الجدل عند الرواة والباحثين، وهي "سبحان الله يا لطيف!" لمصطفى تومي.

وأما المحاضر نور الدين لوحال، فقدّم جولة عبر منابع وعيون العاصمة، موضحا أنه ابن القصبة وولد بير جباح، الذي هو قلب القصبة وعاصمتها. كان الحرفيون فيه يصنعون العسل، وعين جباح كان لها سمعة عالمية خاصة مع مصطفى تومي. وقال العنقى فيها: "في بير جباح نرتاح".وتحدّث لوحال عن دور السقاة البساكرة الذين مثلوا قطعة من تراث المدينة، بعدما هجروا منطقة الزعاطشة بعد أهوال مجازر المستعمر، ودخلوا القصبة حاملين خبرتهم في السقاية والتنقيب عن المياه، وتوزيعها، وحفر الآبار. عُرفوا بسمو أخلاقهم وبالحرمة. وكان الساقي البسكري يتعامل مع النساء المسنات أو ما كان يُعرف بـ"مولاة الدار"، وكان ليلة العيد يفطر على الحلويات؛ تكريما له؛ على أنه واحد من العوائل القصبوية. وكان في العين يتعامل مع الناس بإحسان وينظم الصفوف أمام العين.

وقد كرّمه الرسام العالمي "لاسيرج" في لوحة شهيرة بعدما أُعجب بعمله وأخلاقه في عين "سيدي محمد الشريف"، واحتفظ بدلاء الساقي بعد موته في اليوم الثالث من تصويره. واسترجع المتحدث ذكرياته مع جدته التي كانت تطوف 7 عيون؛ تحضيرا لطقوس البوقالة. وعبّر عن ألمه عندما تَشقق جدار عين بير جباح. كما تحدّث عن يوميات القصبة ومدينة الجزائر التي كانت تصنع السعادة والتفاؤل، ثم استعرض رحلة بحثه عن عيون الجزائر لتسجيل تاريخها في كتابه الذي صدر سنة 2013.

ووصل إلى مناطق الفحص؛ منها عين بير خادم الشهيرة، ونافورة تقصراين، التي بناها فارس من جيش المقراني ليدق ناقوس الخطر، معلنا أن جلّ هذا التراث ضاع، وأن العيون والنافورات، اليوم، مدفونة تحت الإسفلت. ومن جهة أخرى، أحضر لوحال عينات من لعب زمان؛ منها الزربوط، والسارسلو، والزنزلي، وكروسة الرولمة، والقريدة، مشبها القصبة بفناء مدرسة كبير، كان يلعب فيه الأطفال، ويرددون، أحيانا، "قومية يا قومية الماني كاسي كوكو"؛ دليلا على كره الاستعمار.