مديرة قصر "رياس البحر" فايزة رياش لـ"المساء":

التراث الثقافي بديل اقتصادي أكيد لكن بشروط

التراث الثقافي بديل اقتصادي أكيد لكن بشروط
  • القراءات: 1849
حاورتها: لطيفة داريب حاورتها: لطيفة داريب

تعتبر مديرة مركز الفنون والثقافة بقصر "رياس البحر"، الباحثة والمختصة في الأنثروبوجيا الفيزيائية، فايزة رياش، سفيرة التراث محليا ودوليا، كيف لا وقد استعملت كل الطرق المشروعة للمساهمة في الحفاظ على تراثنا والدفاع عنه، والتأكيد على أهميته في الجانب الهوياتي، وفي إطار كونه إحدى البدائل الاقتصادية.. "المساء" حاورتها  وطرحت عليها أسئلة حول التراث، وعن مسارها العلمي متعدد الأوجه، فكان هذا الحوار.

  ما هي الخطوات الواجب اتخاذها لتحقيق الأمن الثقافي؟

❊❊ إذا لم نستطع حماية التراث سيزول، والكثير من الدول، خاصة تلك التي لا تملك ثروات باطنية، أصبحت لديها سياحة ثقافية تدر عليها المال الكثير، لكن لا يمكن تحقيق ذلك بين عشية وضحاها، بل يجب تسطير برنامج يتطلب نظرة استشرافية لأربع أو خمس سنوات على الأقل.

❊ كيف يمكن أن نستغل هذا التراث الثقافي في التنمية الاقتصادية حقا؟ وليس فقط لمشاريع تحقق في سنة أو سنتين؟،

❊❊ أجيب أنه يجب أن تكون هناك نظرة استشرافية لإقامة مشاريع تخدم التراث على أكثر من عشر سنوات.

من أجل أن نستثمر في هذا التراث، يجب أولا أن نستثمر في الفرد، وفي هذا، يجب أن تعلم المدرسة الجزائرية الطفل الجزائري في مرحلة الابتدائي، وهكذا حينما يكبر ويصبح في الجامعة، سيعرف قيمة هذا التراث الثقافي، لهذا مهم جدا أن نشيد الطفل الجزائري في المدرسة الابتدائية على معرفة قيمة هذا التراث الثقافي.

في هذا السياق، أريد أن أتحدث عن نقطة مهمة، تتمثل في التنظيم الفوضوي للزيارات إلى المواقع الأثرية، فمثلا يؤخذ أكثر من 50 طفلا، ويتركون لوحدهم يركضون في كل جهات المواقع، آخر همهم أن يعرفوا تاريخ الموقع الأثري، في حين من المهم جدا تأطير الخرجات الميدانية العلمية، وهو ما يحدث في الدول التي تحترم تاريخها وتقدره، لهذا على وزارة التربية تحديث مقياس للتراث الثقافي الجزائري بشقيه المادي وغير المادي في المرحلة الابتدائية، حيث نتعرف على تراثنا الثقافي ونحن صغار. في المقابل، يجب أن ندرك أن حماية التراث ليست فقط من مهام قطاع الثقافة، بل هناك قطاعات تتقاطع مع قطاع الثقافة لحماية التراث والترويج له.

❊ حدثينا عنها؟

❊❊ أولها قطاع الإعلام، فمهم جدا أن يخدم الإعلام الجزائري التراث. فلم نر مثلا في المسلسلات التي بثت في شهر رمضان، ولا حتى في البرامج التي قدمت بتلك المناسبة، صورة لملابسنا التقليدية. نحن المختصون في التراث نشاهد المسلسلات ونتساءل؛ كيف يمكن أن يكون أرشيفنا بعد خمسين سنة؟، لأننا في الكثير من الأحيان نعتمد على الصور للتعرف على تراثنا، واليوم نشهد تكاثر الصراعات على فضاءات التواصل، حيث تتمركز الصورة، لكن ومع ذلك تلفزيوناتنا ككل لا تروج لصورتنا الحالية، أو كيف يمكن حماية هذا الممتلك الثقافي والتأكيد عليه.

لهذا إذا وظفنا التراث الثقافي في أعمالنا الفينة، سيكون سلاحا نستخدمه في السنوات القادمة، للدفاع عن هويتنا التي تضمحل يوما بعد يوم. مهم جدا أن يلعب الإعلام دوره في حماية التراث، فمثلا حينما يأتي إلينا التلفزيون من أجل التصوير في قصر "رياس البحر"، أطلب منهم وضع إشهار لـ"قصر الرياس"، قبل بث نشرة الثامنة التي تمثل البرنامج رقم واحد في الجزائر، وهكذا مهم جدا أن يكون إشهار حول موقع تراثي أو معلم، حتى يعطي للجزائريين رغبة في زيارة ذلك الموقع، مثلا.

ثاني وزارة هي وزارة البيئة، ودورها مهم جدا، خاصة في المناطق الداخلية، وبشكل أدق في البيئة الصحراوية والقصور الطينية التي لا يعرفها إلا القليل من الناس، لذلك من اللازم الاهتمام بهذه القصور الطينية والدشرات القديمة التي شهدت بعضها أحداثا تاريخية إبان الثورة التحريرية، لذلك يجب الحفاظ على هذا التراث الثقافي التاريخي.

وزارة النقل هي الثالثة، فمن الضروري جدا وضع معلومات عن تراثنا في محطات الميترو، فمثلا محطة ميترو حديقة التجارب، يوجد قبالتها متحف الفنون الجميلة، لكن قلما يستقطب المسافرين الذين يتوجهون مباشرة إلى الحديقة، رغم أن الدخول إلى المتاحف مجاني بالنسبة للأطفال. يجب أيضا أن يكون نفس الاهتمام بالتراث في طائراتنا ومطاراتنا، كل هذا يساهم في عملية الترويج وجعل التراث أحد البدائل الاقتصادية.

أعود لمسألة الأمن الثقافي، وأتساءل مجددا؛ كيف يمكن حماية ما تحتويه الجزائر من الزخم التراثي الأثري المادي وغير المادي؟ وأجيب أن أهم خطوة نقوم بها لحمايته، هو الانتهاء من عملية جرد ممتلكاتنا الثقافية، فمستحيل حمايته من دون معرفة التراث الموجود في المتاحف وفي المواقع الأثرية، علاوة على التراث غير المادي، نعم مهم جدا أرشفة التراث غير المادي، والحمد لله عندنا المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ الذي يضم كفاءات قادرة على أرشفة هذا التراث الثقافي غير المادي، وهكذا حينما نريد تصنيف تراث في قائمة التراث الثقافي، على الأقل لدينا أرشيفه.

رابع وزارة، هي السياحة التي يجب أن تستثمر التراث كأحد البدائل الاقتصادية. في المقابل، تلعب المؤسسات الأمنية دورا كبيرا في تحقيق الأمن الثقافي، حيث أن كل حدودنا معرضة لتهريب التراث، خاصة الشرقية منها، لكثرة المواقع الأثرية فيها، والتي تعود إلى الفترات الرومانية والفينيقية والنوميدية، أذكر قسنطينة، سوق أهراس، تبسة قالة، عنابة.. وكلها مناطق تكتنز موروثا ثقافيا هاما جدا، لكن للأسف، يتم فيها الحفر العشوائي وتهريب الآثار إلى تونس، ومن ثمة إلى إيطاليا.

أيضا الدرك الوطني لوحده استرجع عددا هاما من الممتلكات الثقافية المهربة، وكذا الأمر بالنسبة للأمن الوطني، حتى تباع الممتلكات الثقافية في مواقع التواصل الاجتماعي، لهذا أنوه بالعمل الجبار الذي تقوم به هذه المؤسسات، وتمثل شريكا فعالا لوزارة الثقافة الوصية على حماية التراث، من خلال صد تهريب الممتلكات الثقافية والمتاجرة بها. وهكذا حينما نتمكن من حماية الممتلكات الثقافية، ننتقل في التخطيط لما بعد خمس سنوات، حتى يكون هذا التراث الثقافي بديلا اقتصاديا هاما.

❊ تكافحين منذ سنوات لنشر الوعي بأهمية تحقيق السياحة الثقافية، أليس كذلك؟

❊❊ أتذكر أنني منذ سنوات، شاركت في مداخلة بالمجلس الشعبي الوطني، بمناسبة اليوم الوطني للسياحة، ذكرت فيها إمكانية أن يكون التراث أحد البدائل الاقتصادية، هناك من سخر من قولي هذا، وهنا أقول؛ إن التراث ليس فقط الزائر الذي يدخل المكان، بل هو مجموعة من المقومات، مثلا "الدشرة الحمراء" لبسكرة، وهي قصر من القصور الطينية القديمة، لها تاريخها وأسلوب معيشتها، لو أن هذه المدينة تدخل في المسار السياحي، -علما أن الوكالات السياحية في الجزائر تعمل أكثر في تخصيص الرحلات لأداء العمرة والحج، وكذا رحلات إلى الخارج، ولم تروج للساحة الداخلية إلا في فترة الجائحة-، ولو وفرنا لها الظروف لتحقيق ذلك، لعادت الفائدة إلى المواطن المحلي، ومن ثمة إلى الاقتصاد الوطني.

السائح لا يحتاج إلى فندق خمس نجوم، بل إلى مرقد تقليدي وأكلات تقليدية وألبسة وصناعات تقليدية، كلها تدخل في الاقتصاد الثقافي.

أيضا يمكن مص البطالة من خلال تكوين مرشدين سياحيين، وإحياء الصناعات التي اضمحلت، مثل صناعات الجلود والنسيج والفخار والخشب التي اختفت تقريبا بفعل ندرة المواد الأولية واليد العالمة، حتى المرأة الماكثة في البيت يمكنها أن تقوم بمشروع أكلات تقليدية، لأن السائح يبتغي أن يعيش المكان بكل تفاصيله، حتى البقالات التي تعمل بالجوار تنتعش، وهكذا ستحيا المنطقة وستتغير الحياة بـ"الدشرة الحمراء" التي تعاني حاليا من الركود. إذن يجب وضع مقومات حتى يكون هناك اقتصاد ثقافي، من خلال نظرة استشرافية تدفع بنا إلى العمل ليلا نهارا لتحقيق الهدف، بعد خمس سنوات. يجب أيضا تكوين مرشدين سياحيين حقيقيين، وإنشاء مدارس الفندقة والسياحة في الجنوب أيضا.

أعطي مثالا آخر عن الفقارة المصنفة عالميا، لكنها لا تستقطب السياح، وذكر لي زميل أن سائحة ألمانية استغربت من عمل الفقارة التي تمثل نظام توزيع الماء بالتساوي، بالاعتماد على الطريقة التقليدية، إضافة إلى واحاتها التي يسمونها بجنات، إلى جانب قصور طينية وتاريخ كبير للزوايا يمكن لها أن تؤسس لسياحة دينية مهمة جدا.

❊ فعليا كيف يمكن تحسيس المواطن الذي يعيش ظروفا اجتماعية صعبة بأهمية التراث الثقافي؟

❊❊ عبرت في برنامج تلفزيوني عن فقداني للأمل في هؤلاء الشباب، أنا لا أعتمد على هؤلاء الشباب الذين تربوا على عدم احترام التراث ومعرفة قيمته، فشاب في العشرين، لا يمكن أن أقنعه للدخول إلى متحف، لهذا استثماري الوحيد هو الطفل، وفي هذا السياق، أشرت في بداية الحديث إلى دور وزارة التربية في توعية الأطفال بأهمية التراث وحمايته. وأضيف أنه حتى يكون التراث الثقافي أحد البدائل الاقتصادية بشكل فعلي، يجب الاعتماد على الطفل. فمثلا لو نظمت نشاطا للشباب فيه غناء وأمور شبيهة في مواقع أثرية، سيأتي إلينا وإلا فمستحيل أن يزور موقعا أو معلما أثريا، وهو الذي يقضي جل وقته في مواقع التواصل الاجتماعي، لهذا أملي الوحيد في الجيل الجديد، وأكرر أهمية أن يكون هناك مقياس عن التراث في الطور الابتدائي، كما من الضروري عدم تقديم معلومات مغلوطة، خاصة المتعلقة بالتراث القديم، فالآثار الرومانية، مثلا، هي جزء من تراثنا، وقد شيدت في أراض جزائرية بأياد جزائرية، ووفق مواد أولية جزائرية، كما أن حقبة ما قبل تاريخ الجزائر تؤكد لنا أن بلدنا مهد البشرية في الشمال الإفريقي، فهل يعرف الشاب ذلك؟ لا، بل أغلبهم يسوقون وراء أفكار خاطئة تجول في مواقع التواصل الاجتماعي.. حقا فقدت أملي في الشباب وأملي الوحيد هو الطفل.

في هذا السياق، أطالب بتوطيد العلاقة بين المدرسة والثقافة بتفرعاتها، وفي مقدمتها التراث والمسرح المهمين جدا في تربية جيل واع ومثقف ومتعلق بتاريخه وتراثه وهويته. وكذا إلى مساعدة الإعلام لنا لترويج التراث، صحيح أن قصر "رياس البحر" يستقطب الزوار أكثر من المتاحف الأخرى، لأن موقعه استراتيجي، وهو قريب من البحر ومن وسائل النقل، وبالأخص العائلات خلال العطل، ومع ذلك ليس بالعدد الذي نراه في دول أخرى، تعتمد على الممتلكات الثقافية كبديل اقتصادي.

أدعو أيضا إلى خفض سعر تذكرة الدخول إلى المتاحف بالنسبة للجزائري ومضاعفتها بالنسبة للأجنبي، فهناك من الجزائريين من لا يستطيعون دفع تكاليف تذكرة تقدر بـ200 دينار في حال اصطحابهم لعائلتهم، بيد أن السائح الأجنبي يمكنه دفع أكثر بكثير من 200 دينار، لهذا يجب أن يعاد النظر في هذا الأمر، خاصة أننا نملك متاحف قيمة، مثل متحف زبانة بوهران وباردو وغيرهما.

كما لا يجب أن ننسى تحسين الخدمات في المتاحف، التي تفتقر إلى الكثير من الأمور، خاصة المنشورات والدليل السياحي، فمن الضروري تحسين صورة المتاحف والترويج لها عبر مختصين في تسويق التراث الثقافي.

❊ كيف يمكن تحسيس المواطن بأهمية تاريخه في تشكيل مستقبله؟

❊❊ هي مهمة وزارة التربية، من خلال تنظيم خرجات ميدانية علمية إلى المتاحف والمواقع. للأسف، حينما أرى الأطفال في موقع أثري يهتمون فقط بالأكل والتقاط الصور، بيد أنه في دول عربية تملك مواقع صغيرة نجد الأطفال فيها يحملون معهم كناشا أو ورقة، يسجلون عليها كل ما تعلموه من خلال هذه الزيارة، ويقومون فيما بعد بكتابة بطاقة قراءة عن الموقع، لذلك يجب تعليم الطفل كيفية زيارة المواقع الاثرية. أذكر أننا أقمنا تجربة في إطار جمعية اسمها "الرالي الأثري"، وعلمنا الأطفال تاريخ الموقع، كيفية المشيء فيه، لماذا لا نمشي فوق الفسيفساء؟ لماذا لا نأكل في الموقع؟ وهكذا بعد عشر سنوات، لن يأكل هذا الطفل الذي أصبح شابا في الموقع أو يمشي على الفسيفساء أو يلمس معلما ويتسبب في إتلافه، بفعل الأحماض التي توجد على مستوى اليدين، ولن نكون بحاجة إلى عون حراسة تنوط إليه مهمة الحفاظ على التراث.

لماذا لا يهتم الجزائري بتاريخه القديم، هل بفعل محاولة الاستعمار الفرنسي طمس هويتنا، أم أن السياسات المتبعة منذ استقلالنا، همشته عن قصد أو عن غيره؟

لماذا نلعب دائما دور الضحية؟ فرنسا عملت المستحيل من أجل طمس الهوية الجزائرية بكل أطيافها وأنواعها وأعراقها. واليوم بعد أكثر من 50 سنة من الاستقلال، أقول إن الخطأ فينا نحن، كما لا ننسى أن الزمن التاريخي الذي مرت به الجزائر مهم جدا، فبعد الاستقلال، حاولت الدولة الجزائرية بناء البيت الجزائري، وكان آخر ما تهتم به التراث. لكنني متأكدة أن تهميش الدولة للتراث بعد الاستقلال لم يكن ممنهجا، لأنها كانت من الدول العربية السباقة لوضع ترسانة قانونية تحمي التراث الثقافي الجزائري، فهناك دول عربية تعتمد على السياحة الثقافية، لكن ليس لها قانون يحمي التراث ولا خلايا في المؤسسات الأمنية لحمايته. 

أما الجزائر فهي أول من أمضت اتفاقيتي باريس سنة 1970، من أجل صون الممتلكات الثقافية، علاوة على اتفاقيات دولية أخرى تحمي التراث الثقافي آخرها، جعلتها تتبنى المركز الإقليمي للتراث الثقافي غير المادي. لهذا الجزائر كدولة، قامت بمجهود من أجل حماية التراث، وفي الدول العربية يقول لي أصدقاء؛ إن الجزائر تملك ترسانة قانونية وخلايا لحماية التراث، فكيف لها أن لا تعتمد على التراث كأحد البدائل الاقتصادية؟.

مشكلة التراث ليست في القانون، بل فينا نحن وفي المنظومة التربوية التي لا يجب أن توقف تعاملها مع المؤسسات الثقافية، خاصة أن وزارة الثقافة لا تفرض العودة إليها في حال إذا أرادت مؤسسة ثقافية التعامل مع وزارة التربية. وأطالب وزارة التربية بتخصيص ولو درس واحد للتراث في الشهر للطور الابتدائي، لكن مع ضرورة تنظيم خرجات ميدانية، فأولياء تلاميذ السنة الخامسة في الطور الابتدائي، يشتكون من عدم فهم أطفالهم للدروس المتعلقة بالتراث، وأنا أتفهم ذلك، لأن هؤلاء الأطفال لم يزوروا في حياتهم متحفا أو موقعا تراثيا.

لا ننسى أيضا أننا مررنا بالعشرية السوداء، حيث كان المواطن الجزائري يبحث عن الأمان ولم يكن يهتم بالثقافة، وبعدها أصبح يبحث عن قوته في ظل غلاء المعيشة، لهذا لن يفكر في زيارة متحف أو حتى الذهاب إلى مسرح، فالطفل الذي عاش فترة العشرية، والذي لم يعرف معنى للمتحف، لن يربي أبناءه وقد أصبح أبا، على أهمية التراث. ومع ذلك أقول؛ إننا ننعم بمؤسسات ثقافية تضم كفاءات، يمكنها استعادة الجمهور بتنظيمها لنشاطات موازية، لكن من المهم أن يربي الأولياء أبناءهم على حب التراث.

❊ ماذا عن التوجه الذي يرفض تاريخ الجزائر ما قبل الفتوحات الإسلامية؟

❊❊ هذا الأمر ليس واقعا، بل نجد هذا الصراع في فضاءات التواصل. كما أن معهد الآثار يخرج كل سنة إطارات من كل أنحاء الجزائر في عدة تخصصات، مثل الآثار الإسلامية، الصيانة والترميم، آثار قديمة، حتى أنه يستقطب طلبة عرب، أؤكد أن هذا الصراع لا يوجد في الميدان.

❊ ولكنه يوجد في المجتمع؟

❊❊  يوجد فقط في فضاءات التواصل، فالجزائري في عمومه، لا يقرأ ويتبع الفكرة فقط، أعطي مثالا عن الفيلم الوثائقي الفرنسي "الجزائر نظرة من السماء"، الذي قال مخرجه، إن سفار تعد أكبر متحف في العالم، وهكذا يعتقد الجزائريون أن الأمر صحيح، لأنه قيل في التلفاز، لكنه خطأ، فسفار علميا وتراثيا وأثريا نقطة صغيرة من طاسيلي ازجر، المسجل في قائمة التراث العالمي، كما أنه لا يضم كهوفا، بل فيه ملاجئ صخرية كان الإنسان يعيش فيها ويرسم ما كان يعيش، لهذا مهم جدا أن يعطينا الإعلام معلومة صحيحة ويروج التراث بالشكل الصحيح، سواء القديم منه أو الحديث. مهم أيضا أن نقرأ تاريخنا، وأن لا نتبع المعلومات الخاطئة التي نضيع بها أجزاء من هويتنا.

ثاني أمر ضيع هويتنا؛ هو الجري وراء الفتن والجزائر جزء من بلاد المغرب الكبير، وتتقاسم مع الجارتين الشرقية والغربية وحتى الجارات الجنوبية، الكثير من المكونات، فنحن شعب واحد وكنا حضارات واحدة، وما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، ورغم كل هذا، هناك أمور تميزنا عن غيرنا، علينا أن نركز عليها لتصنيفها وتسجيلها دون الركض خلف أمور تفرقنا أكثر مما تجمعنا.

❊ كيف يعزز التراث من هوية المواطن الجزائري؟

❊❊ بوجود متاحف تمس تاريخ الجزائر بكل حقبه، فهناك متاحف فيها آثار رومانية، وهناك متحف الباردو المختص في فترة ما قبل فترة التاريخ والإثنوغرفية، يعني منذ اكتشاف أقدم موقع في شمال إفريقيا (بوشريط) 2.4 مليون سنة، كما يعطي لمحة عن الحضارات التي تناوبت على الجزائر منذ 2.4 مليون سنة إلى غاية فجر التاريخ، أي 2000 سنة قبل ميلاد. هناك أيضا متحف الآثار القديمة الذي يعرض كل ما يتعلق بالحضارات الفينيقية والنوميدية المحلية والإسلامية. هناك متاحف أخرى شرشال هيبون وغيرها، تؤرخ لكل المراحل التي مرت على الجزائر التي عرفت أيضا أرضها الديانتان اليهودية والمسيحية، ومن ثمة الفتوحات الإسلامية، الحمد لله. كلها جوانب من جوانب التاريخ الجزائري لا يجب أن نحذف أيا منها وتحتفظ بها متاحفنا. نعم نفتخر بها لأنها جزء من تاريخ الجزائر.

❊لكن هناك من يرفض تاريخ الجزائر ما قبل الفتوحات الإسلامية؟

كيف نناقش مواطنا لم يدخل في حياته متحفا ولم يقرأ كتابا؟.

هل تحتاج الجزائر إلى قوانين أخرى تخدم التراث وتحميه؟

❊❊ الجزائر مقارنة بدول أخرى، لديها ترسانة قانونية جيدة، صحيح أن قانون 04-98 فيه بعض الهفوات، من بينها عدم ذكره للمتاحف، إلا أنه منذ سنة، تم تعديله وسيعرض على البرلمان للمصادقة عليه. القوانين موجودة في الجزائر وصارمة، وفي المطار مثلا، الشرطي يعرف قيمة التراث والجمركي أيضا، والدركي يتدخل في المناطق الداخلية ويحارب حتى الحفر العشوائي، فالمؤسسات الأمنية تدرك قيمة التراث، المشكلة في بناء فرد واع بأهمية التراث وبحمايته، ونحن متأخرون جدا في هذا المجال.

❊ هل من الضروري إضفاء العصرنة على تراثنا غير المادي للحفاظ عليه؟

❊❊ يمكن أن نضيف أشياء على اللباس التقليدي، كي نحافظ على طابعه القديم، لهذا إذا كانت العصرنة لا تغير شكله والمواد التي يصنع منه، فلا بأس وإلا لتغير اللباس ومع مرور الوقت سيختفي. نحن نعيش صراعا هوياتيا كبيرا جدا، خاصة مع جيراننا، وعلينا إبراز لباسنا التقليدي والاعتزاز به في المحافل المحلية والدولية.

❊ هل من حفريات أثرية تجرى في الفترة الراهنة ؟

❊❊ نعم ويشرف عليها معهد الآثار، هناك حفريات تاريخية بمنطقة وادي الرايح بمستغانم، حول آثار قبل تاريخ وحفريتان في عين حنش سطيف مهد البشرية، في شمال إفريقيا، وحفرية زموري البحري حول موقع من الحضارة الإسلامية.

❊ إلى جانب كونك مديرة قصر "رياس البحر"، تدرسين في كلية علوم الإعلام والاتصال، حدثينا عن ذلك؟

❊❊ أنا أستاذة بكلية علوم الإعلام والاتصال، أدرس مقياس "مدخل إلى علم الآثار"، في كل عام يأتي إلى الطلبة ويطلبون مني إمكانية تغيير التخصص إلى معهد الاثار، لكنني أرفض وأقول لهم؛ إنه من المهم أن يكون الإعلامي محبا للتراث، وهكذا سيروج له ويدافع عنه، هذا هو استثماري في المعهد.

❊ ماذا عن برنامج "تراثنا وهويتنا" الذي تقدمينه عبر الإذاعة الثقافية؟

❊❊ أعتبره أروع تجربة، كانت عندي مشاكل في مجال التراث، كنت أحب أن أحكي عن التراث وأوصل فكرته، وكان يؤلمني ما يحدث له، وهكذا منحت لي الإذاعة الثقافية فرصة تقديم برنامج "تراثنا وهويتنا". أشكر بالمناسبة، مديرها السابق بدر الدين، الذي وضع فيّ الثقة، رغم أنني لست إعلامية، بل مختصة في التراث وأستعمل كل الوسائل المشروعة للدفاع عنه.

هي حقا تجربة جميلة جدا، تعلمت منها الكثير، رغم مروري في بلاطوهات كثيرة، مثل إذاعة البهجة، وكذا في ركني من برنامجي في التلفزيون الجزائري "صباح الخير" و"دنيا المرأة". في المقابل، يتغير برنامجي إلى "هويتنا في أطباقنا" في شهر رمضان، وإلى "طقوس صيفية" في فصل الصيف، حقا هي تجربة رائعة تستمر منذ سنة 2018، وفي هذا السياق، سيصدر لي كتاب تاريخ الأطباق التقليدية، حيث اكتشفت تاريخ أكثر من 42 طبقا تقليديا جزائريا على أصوله، وهو إصداري الثاني بعد كتابي عن لعبة خاصة بالعائلات السبع لما قبل التاريخ، موجهة للأطفال تباع في متحف باردو، وقريبا سينشر باسمي.

❊ إذن حان وقت الكتابة بالنسبة لفايزة رياش؟

❊❊ خصصت وقتي كله للدفاع عن التراث، ولم يكن لدي وقت للكتابة، لكنه حان وقتها، لدي أبحاث كثيرة من بينها؛ أطلس خاص بالفن الصخري في الجزائر، قمت بعمل ميداني رائع جدا، أحصيت فيه أكثر من ألف محطة صخرية في الجزائر للفن الصخري طاسيلي وأطلس صحراوي، وحتى الحدود الجزائرية المغربية والحدود الشرقية، ينتظرني تحرير هذا العمل الكبير. لدي مقالات في مجال تخصصي، وهو مجال مختلف تماما، يتمثل في تاريخ الأمراض القديمة وتطور الإنسان، وأنا بفضل هذا التخصص خبيرة في مجال الأنثروبولوجية الفيزيائية بمؤسسة "ألجيراد"، وهي مؤسسة عمومية خاصة بالخبراء الجزائريين تابعة لوزارة الصناعة، قمت بعدة خبرات بالمعهد الوطني لعلوم الإجرام في بوشاوي (الجزائر العاصمة)، وكان لدي حظ، لأنني درست معهم برنامجا في تخصصي، وتحصلت على شهادة في الولايات المتحدة الأمريكية، علما أن تخصصي هو تحديد معلومات حول الهياكل العظمية، مثل السن، المرض والجنس. ورغم مساري العلمي الهام، ما زلت أدرس وأسعى إلى خدمة تراث بلدنا، بشكل علمي أكاديمي، وسنترك الأثر ولو بعد حين.