"عائد إلى حيفا"يفتتح مسابقة المحترف
الابن الضائع وسؤال الوطن
- 328
د. مالك
في مسرحية "عائد إلى حيفا" (50 دقيقة) المشارك، أول أمس، ضمن منافسة المهرجان الوطني للمسرح المحترف في دورته الثامنة عشرة، تتجسّد المأساة الفلسطينية لا بوصفها حكاية فقدٍ فقط، بل كمواجهة فكرية مؤلمة تهزّ الوجدان وتضع المتفرّج أمام أسئلة قاسية حول الهوية والانتماء والمسؤولية. وقد جاء هذا العرض باقتباس نسيمة لوعيل وتصميم عرض سعيدي عبد الوهاب، ليمنح النص بعدًا مسرحيًا معاصرًا دون أن يفقد عمقه الإنساني.
تتمحور هذه المواجهة الفكرية في لحظة اللقاء بين الوالدين الفلسطينيين وابنهما الذي تركاه رضيعًا تحت ضغط الهجرة القسرية، ليعودا بعد سنوات طويلة ويجداه قد كبر بهوية أخرى وانتماء مغاير، هنا لا تكون الصدمة في الفقد وحده، بل في تحوّل المعنى نفسه ابن من لحم ودم، لكنه لم يعد يحمل القضية ولا الذاكرة نفسها. المسرحية، التي أنتجها مسرح قالمة الجهوي، لا تقدّم هذا اللقاء في صيغة عاطفية سهلة، بل تحوّله إلى صدام فكري قاسٍ بين من يرى الوطن حقًا تاريخيًا وهوية لا تزول، ومن تشكّل وعيه داخل رواية مغايرة.
تكمن قسوة المواجهة في أنها لا تُدين طرفًا بشكل مباشر، بل تكشف هشاشة المواقف جميعها. الأبوان يواجهان شعور الذنب والعجز، والابن يواجه حقيقة أنه يعيش على أرض ليست بلا ذاكرة، بينما يظلّ الاحتلال حاضرًا كقوة غيّرت المصائر وأعادت تشكيل البشر. الحوار المسرحي، كما صيغ في هذا العرض، يبتعد عن الخطابة المباشرة، ويعتمد على الصمت، والتوتر، والانكسار الداخلي، ما يجعل الألم الفكري أعمق من أي صراخ.
يُحسب للاقتباس والإخراج أنهما ركّزا على هذه المواجهة بوصفها جوهر العمل، لا مجرد محطة درامية. فالمسرحية، في عرضها الأخير، لا تسأل: من المخطئ؟ بل تسأل: ما معنى أن نفقد أبناءنا مرتين، مرة بالتهجير، ومرة بضياع الوعي؟ وهنا تتجلّى قيمة “عائد إلى حيفا” كمسرح مقاومة فكري، يذكّر بأن القضية ليست ذكرى، بل وعيٌ يجب أن يُستعاد، وأن الألم الحقيقي ليس في العودة إلى المكان فقط، بل في مواجهة ما أصبحنا عليه بعد الغياب.
كما ينتصر العمل للقضية حين يحمّل الشخصيات الفلسطينية مسؤولية وعيها وخياراتها، رافضًا تقديمها كضحايا سلبيين. فالأب، في لحظة الإدراك الحاسمة، يدرك أن البكاء لا يعيد الابن، وأن الدفاع الحقيقي عن الوطن يكون بصناعة جيل جديد واعٍ بقضيته. المسرحية لا تنتصر للقضية عبر إدانة الآخر فقط، بل عبر ترسيخ الوعي، وفضح آثار الاحتلال على الإنسان والهوية، والدعوة إلى الفعل بدل الحنين.