البروفيسور عبد الحميد بورايو لـ "المساء":

الأدب الشعبي من روافد هويتنا الوطنية

الأدب الشعبي من روافد هويتنا الوطنية
  • القراءات: 2279
مريم. ن مريم. ن

 يُعد البروفيسور عبد الحميد بورايو أحد مؤسسي الخطاب النقدي الجزائري المعاصر، يحمل مشروعا علميا نهضويا، يرتقي بتراثنا الثقافي الوطني من خلال الاستثمار في المناهج النقدية المعاصرة. التقته "المساء"، وكان هذا الحديث.

❊ ما هو سر اهتمامك بالأدب والثقافة الشعبية؟

❊❊ يعود اهتمامي بالثقافة الشعبية، عموما، والأدب الشعبي بالخصوص، إلى عوامل عدة، أولها: ما هو مشترك بيني وبين أفراد المجتمع الجزائري؛ باعتبارنا جميعا ننشأ منذ طفولتنا الأولى على تداول الثقافة الشعبية في أسرنا وأحيائنا وقرانا ومدننا. وما يميز أمثالي عن بقية أفراد المجتمع هو وعيي بأهمية هذه الثقافة وهذا الأدب. وتَبين لنا بأن مفهوم الثقافة ليس حكرا فقط على ما هو مكتوب ومدرسي، بل يتعدى ذلك إلى مجموع المعارف والمعتقدات وأساليب التعبير في اللغة الدارجة. وقد تَدعم هذا الوعي بالإيديولوجيا اليسارية التي شاعت بين الطلبة والشباب في جزائر ما بعد الاستقلال، والتي كانت تطرح مسألة دمقرطة الثقافة، والعناية بما ينتجه عامة الناس من فنون وإبداعات، بفعل تنامي دور الفئات البسيطة في تسيير المجتمع، مع دولة وطنية بُنيت على أكتاف الناس الأميين، الذين يوجدون في أسفل السلم الاجتماعي.

ثاني هذه العوامل يمكن رده للصدفة؛ لما طلبتُ منحة دراسية في إطار البعثات الطلابية، وكان اختياري يتمثل في الذهاب إلى روسيا أو فرنسا للتخصص في اللسانيات الحديثة، غير أن المسؤولين في وزارة التعليم العالي قرروا توجيهي للدراسة في مصر ما دمتُ معرَّبا بالرغم من أن تعليمات وزير التعليم العالي آنذاك، الصديق بن يحيى وبعض مستشاريه، أوصت بإرسال المعربين إلى الغرب والمفرنسين إلى الشرق، ولعلهم كانوا يجهلون أن اللسانيات الحديثة لم تترسخ بعد في الجامعات المصرية. لما التحقتُ بالقاهرة وجدت أن الأستاذ الجامعي الوحيد المؤهل للإشراف على الرسائل الجامعية في اللسانيات الحديثة، كان الدكتور محمود فهمي حجازي، وكان معَارا في السودان، ولم أجد في قسم اللغة العربية سوى المتخصصين في فقه اللغة والنحو والأدب العربي. وكان من بين المواد الاختيارية التي عُرضت علينا في برنامج السنة التمهيدية لتحضير درجة الماجستير من قسم اللغة العربية، مادة "الأدب الشعبي" التي أسس كرسيها الدكتور عبد الحميد يونس. علمتُ آنذاك أن عملية إصلاح البرنامج الدراسي لطلبة اللغة والأدب العربي في الجامعات الجزائرية، أدرجت مادة الأدب الشعبي، فاخترت مادة الأدب الشعبي التي درستها في السنة التحضيرية على يد الدكتور أحمد مرسي، الذي كان مهتما بأصول البحث الميداني، وأشرفت على بحثي في الماجستير الدكتورة نبيلة إبراهيم (التي عادت وقتئذ من بعثة من أوروبا، وكانت أول من قدم عرضا للدراسات البنوية الحديثة في العالم العربي، واهتمت بصفة خاصة بفلاديمير بروب وليفي ستروس. وكان العرض نُشر في كتاب قبل التحاقي بقسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة بسنتين. واطلعت على أول دراسة بنوية لنص تراثي هو رسالة الغفران، التي قدمت في جامعة تونس، فقررت تطبيق نفس المنهج على القصص الشعبي الجزائري.

❊  ما هو دور المعرفة والمناهج الحديثة في دراسة الثقافة الشعبية؟

❊❊ في العهد الحديث أصبحت مواد الثقافة الشعبية موادَّ للبحث العلمي منذ أن ظهر "علم الفولكلور"، فتأسست جمعيات علمية تهتم بها. أما في العالم العربي فقد كانت العناية بالثقافة الشعبية باعتبارها فولكلورا في أقسام الأنثروبولوجيا بكلية العلوم الاجتماعية بالجامعة المصرية. وتأسس أول كرسي جامعي لدراسة الأدب الشعبي شغله عبد الحميد يونس في بداية 60 بكلية آداب جامعة القاهرة. وقد ظلت هذه المواد موضوعا للبحث العلمي في مختلف فروع علم الاجتماع الثقافي والأنثروبولوجيا والدراسات الحضارية، وكذلك الأدب العربي في عدد من الجامعات العربية فيما بعد.

وعرفت الثقافة الشعبية ثورة منهجية لما ظهرت الدراسات الثقافية لما بعد الكولونيالية، وقد مثلت مجالا أثيرا لمثل هذه الدراسات التي انتشرت واعتمدت على منهجية بينية، تقاربها بوسائل منهجية مستمدة من عدة فروع علمية.

وأعطت اتفاقية 2003 حول التراث اللامادي في نطاق نشاطات منظمة اليونسكو، دفعا جديدا للدراسات المهتمة بالثقافة الشعبية وبأرشفتها وتصنيفها وصونها، خاصة لما نُظمت مؤتمرات علمية، وتشكلت جمعيات مدنية ثقافية تعتني بها، ومجلات متخصصة في التراث الشعبي، ومن بينها مجلات دورية صدرت في العالم العربي؛ مثل مجلة "فنون الثقافة الشعبية المصرية"، و"الثقافة الشعبية" البحرينية، و"المأثورات الشعبية" القطرية، و"الموروث الشعبي" بالإمارات. وكان الجديد في مثل هذه العناية متمثلا في الإرادة السياسية الناشئة عقب توقيع الاتفاقية من طرف الدول أعضاء منظمة اليونسكو، التي اختلفت في جدواها وفعاليتها من بلد إلى آخر وظهور خبراء في التراث اللامادي، ومساع لتصنيف مواده وتدعيم كنوزه البشرية (حملة التراث الشعبي) وفق قوانين وتحفيزات وضعتها هذه المنظمة.

وكان لظهور البنوية (البنائية) في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، الدور البارز في تطوير منهجية بحث مواد الثقافة الشعبية؛ إذ نجد عددا من الدراسات البنوية الرائدة، اعتمدت على دراسة الثقافة الشعبية لدى عدد من الشعوب والمجتمعات.

❊ هل تثمين التراث الوطني يحتاج لإرادة سياسية ولمشروع جامع؟

❊❊إن العناية بالثقافة الشعبية وتثمين البحث فيها وأرشفة موادها، تتعلق بدرجة كبيرة، بالإرادة السياسية للدولة الجزائرية ولاستراتيجياتها العلمية والثقافية. وبفعل هذه السياسة التي اعتمدت على التوجيه يأتي دور ومكانة مؤسسة الدولة الوطنية بالنسبة للمجتمع الجزائري؛ فهو حاضنُها منذ تشكلها زمن الثورة، وهي أداته التنظيمية الوحيدة بسبب ضعف التنظيم الذاتي (المدني) بفعل الضغط الاستعماري، واختفاء البنى التقليدية للمجتمع، وبسبب حل كل التنظيمات عند قيام الثورة، وهو ظرف تاريخي تسبب في هيمنة مؤسسة الدولة الوطنية ذات السلطة المركزية؛ فللدولة، إذن، الدور الرئيس في مشروع وطني، يعمل على إدماج التراث الشعبي في السياسة التنموية لصون الهوية الثقافية، وخلق فرص عمل في مجال الحرف التقليدية الموروثة، وتثمين البحث العلمي في مجال اللهجات الشفوية في اللغتين العربية والأمازيغية، وتشجيع استمرار ممارسات التراثين المادي وغير المادي في الحياة الثقافية، وصون مواد الثقافة الشعبية من التلف والضياع بفعل التحولات المتسارعة للوسائط التعليمية والتثقيفية والإعلامية والترفيهية، عن طريق أرشفتها وتوفيرها وفق صيغ عديدة، لتنتقل إلى الأجيال الجديدة.

❊ ما هو الأثر الذي تركه أستاذك غريماس في مسارك العلمي؟

❊❊ تتلمذي على غريماص غير مباشر؛ لأنني لم أحضر دروسه إلا قليلا، ولأنني ذهبتُ في فترة لم يعد يدرس فيها، بل كان موجها فيها لنشاط جمعية السيميائيات ولأعضائها من تلاميذه، وكنتُ قد كرست حضوري أثناء تواجدي بباريس خلال 84-1986، لدروس الأستاذ كلود بريموند، الذي ظل يمارس البنوية ولم يكن من تلاميذ غريماص السيميائيين.

أعتبر نفسي تلميذا لغريماص من خلال قراءاتي لكتاباته، ومحاولتي تطبيق منهجه في تحليل القصص الشعبي، وهو تتلمذ في نفس مستوى تتلمذي، على كل من "فلاديمير بروب" صاحب نظرية التحليل المورفولوجي للحكاية الخرافية، و"جوزيف كورتيس" المختص في التحليل السيميائي للحكاية الشعبية ورفيق غريماص، وكذلك رائد الأنثروبولوجيا البنوية "ليفي ستروس"، الذي استفدتُ من كتاباته في تحليلاتي التي تجمع ما بين البنوية والسيميائيات والأنثروبولوجيا. إلى جانب ذلك كانت استفادتي كبيرة من البنوية الفرنسية في تياراتها المختلفة؛ باطلاعي على كتابات رولان بارث وتزفيتان طودوروف.

❊ برز البروفيسور بورايو في الخطاب السردي وفق مقاربات منهجية؛ فهل كان ذلك اختيارا أو ضرورة علمية من أجل النهوض بالتراث الوطني؟

 ❊❊ تعلمتُ في مرحلة الليسانس الدرس الأدبي من خلال المنهج التاريخي التوثيقي، الذي يعتني بظروف الإبداع الأدبي وبحياة منتجه وبيئته، إلى جانب المنهج الانطباعي المبني على حسن التقدير، وتوصيف المادة الأدبية والتعليق عليها، من خلال نص نقدي ينزع إلى الأسلوب الإنشائي. أضف إلى ذلك بعض ما تعلمناه من التيارات النقدية التي جاءت بها مدرسة النقد الجديد الإنجليزية، وكان يدرسنا الأستاذ محمود الربيعي (المصري) مستخدما أدواتها المنهجية، وهي طريقة في التحليل ذات منزع نصي قريبة من المنهج الموضوعاتي. وكنتُ قدمتُ دراسة حول رواية "اللص والكلاب" أمام الأستاذ الربيعي تستوحي طريقته في التحليل، نُشرت في مجلة "الأثير" التي تصدر عن الإذاعة الوطنية، وكان الأستاذ الطاهر بن عيشة مؤسسا لها في بداية السبعينيات، وكانت تلك التجربة أول تحليل قمت به في مجال السرد.

كنتُ ميالا منذ مرحلة الليسانس إلى العناية بالسرد. وقد جربتُ كتابة القصة القصيرة، وأشرفت على ركن "إبداعات في القصة القصيرة" في الملحق الثقافي لجريدة الشعب لما كان تحت مسؤولية الطاهر وطار. ونشرت بعض المقالات النقدية التي عالجت نصوص القصة القصيرة والرواية، أو بعض المتابعات الصحفية لندوات أقيمت في إطار النشاط الثقافي.

وأثناء المرحلة الأولى من دراساتي العليا بكلية آداب جامعة القاهرة، كان لبعض الأساتذة مثل "سهير القلماوي" و"عبد المنعم طه بدر"، تأثيرهم عليّ في العناية بفن الرواية.

ولما سجلت موضوع "القصص الشعبي في منطقة بسكرة" في إطار تحضيري لرسالة الماجستير، كنتُ أتلقى توجيهات المشرفة على بحثي الأستاذة نبيلة إبراهيم المتخصصة في السرد القصصي، والتي تبنت المنهجين البنوي والنفسي في تحليلها للمدونات القصصية. وأثناء قيامي بالجمع الميداني اكتشفت مدى حضور السرد في الروايات الشعبية وأهميته بالرغم من أن الثقافة الرسمية لا تنظر إليه بعين العناية. وكان لتعرفي على رواة منطقة سيدي خالد (ولاية أولاد جلال) شبه المتخصصين في رواية الحكاية الشعبية من أمثال "الحميدي" و"الرقيق" و"إسماعيلي" وغيرهم، دور في إقناعي بأهمية التراث القصصي الجزائري، وبكونه جديرا بالبحث والتحليل العلمي. وإلى جانب ذلك، كان لحضوري حلقات الأسواق للروايات القصصية الشعبية والاحتكاك بالمداحين (رواة القصص المحترفين)، الدور الأساس في تعلقي أكثر ببحث هذا الفن والعناية به فيما بعد، خاصة أني في منتصف عقد السبعينيات كان من حظي الالتقاء بالحلقة الأخيرة من أشهر المداحين في وادي سوف وبسكرة، والذين كانت شهرتهم تتجاوز منطقتهم؛ من أمثال قدور السوفي (بوحباكة)، والعيد النوبلي (في وادي سوف)، وعلي بن علي وغيرهم (في بسكرة)..

❊ حدثنا عن مساهماتك في دراسة الأدب الجزائري؟

= تمثل عملي الأول في دراسة ميدانية قمتُ بها في منطقتي بسكرة ووادي سوف في سنة 1976، جمعتُ فيها القصص الشفوي المتداولة في المنطقتين، ودرستُ مجتمع القص؛ أي الرواة والمستمعين والزمكان الذي تجري فيه عملية القص، ثم قمت بتصنيفها حسب أشكالها الأساسية، وقدمتُ دراسة نصية بنوية لنماذج، منها تزاوج ما بين التحليل الشكلاني البنوي والتحليل الأنثروبولوجي، تقدمتُ بهذا البحث لنيل شهادة الماجستير، وقد كانت هذه الدراسة نموذجا بالنسبة للطلبة الباحثين، الذين أنجزوا مذكرات ورسائل في ما بعد على منوالها في هذا المجال. وألفتُ بعد ذلك كتابا خاصا بالحكايات الخرافية المغاربية في سنة 1992، اتبعتُ فيه نفس المنهجية، ودرست فيه مجموعة من الحكايات الخرافية المشهورة في شمال إفريقيا، والتي تُروى بالدارجة العربية أو باللهجة الأمازيغية. ثم نشرت رسالتي التي حصلتُ بها على الدكتوراه سنة 1996، عبارة عن تطبيقات سيميائية نموذجية للحكايات الخرافية الموجودة في كتاب "ألف ليلة وليلة". هيأتُ كتابا وفق برنامج الأدب الشعبي الجزائري في الجامعة، ليكون مرجعا للطلبة عند تحضير شهادة اللسانس وكذلك المذكرات والرسائل، تناولتُ فيه أهم أشكال التعبير الشعبي، سميته "الأدب الشعبي الجزائري، تم نشره في سنة 2007، وأعيد طبعه في سنة 2009. ونشرتُ سنة 2003 مجموعة من الدراسات السيميائية، تناولت بالبحث حكايات من "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" عنوانه: "التحليل السيميائي للخطاب السردي". وإلى جانب هذه المؤلفات جمعتُ مقالاتي في الملتقيات، ونشرتها في كتب هي: "الثقافة الشعبية الجزائرية: التاريخ والقضايا"، و"البطل الملحمي والبطلة الضحية في الأدب الشفوي الجزائري"، و"البعد الاجتماعي والنفسي للأدب الشعبي الجزائري"، وقصص "تغريبة بني هلال في الدراسات المغاربية"، و"دور المرأة في الحكاية الشعبية الجزائرية". كما قمتُ بنشر مجموعتين من الحكايات الشعبية؛ مجموعة من مختلف نواحي الجزائر، وهي "أحمد بن السلطان وقصص أخرى: نماذج من الحكايات الشعبية الجزائرية"، و"حكايات شعبية جزائرية حول المرأة"، ثم "حكاية جبل الهيدور: قصة من التراث العربي الجزائري المدوّن". كما أشرفت على تأليف كتاب "القصص والتاريخ: التمثيل الرمزي لحقب من التاريخ الاجتماعي الجزائري". وقمت بترجمة أربعة كتب لأنثروبولوجيين جزائريين أكفاء لهم سمعة دولية يكتبون بالفرنسية، وهي "قصور قورارا وأولياؤها الصالحون في المأثور الشعبي" لرشيد بليل، و"نسق الزواج والحرف التقليدية النسوية في الجزائر" لشفيقة معروف، و"نصف قرن من الأبحاث في العلوم الإنسانية: مسار أنثروبولوجي هادم للأوثان" لنادر معروف، و"الحوفي: شعر نسوي وتراث شفوي في البلاد المغاربية" لمراد يلس.

وأسستُ مخبر "أطلس الثقافة الشعبية الجزائرية" الذي أطر دفعات من الطلبة، والذين أصبحوا أساتذة. كما أشرفت على إنجاز عدد كبير من المذكرات والأطروحات في الأدب الشعبي الجزائري باللهجات العربية والأمازيغية في جامعات الجزائر وتيزي وزو وتلمسان وخنشلة منذ بداية التسعينيات. وترأست لجان تحكيم لمسابقات في الشعر الشعبي. ومثلتُ الجزائر في العديد من الندوات والمؤتمرات الدولية العربية. كما ساهمتُ في تنظيم الملتقيات الدولية في الجزائر، ومن أبرزها "ملتقى الخيمة" بمناسبة سنة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وكذلك ملتقى الأنثروبولوجيين الأفارقة بنفس المناسبة. والتقينا في مناسبات أخرى في بلدان مغاربية ومشرقية، وأنجزنا مشاريع مشتركة؛ مثل مجلة الثقافة الشعبية في البحرين، ومكنز التراث اللامادي العربي بالشارقة، وكانت مساهماتي فيهما متعلقة بالثقافة الشعبية الجزائرية.

❊هل لقي الأدب الشعبي عندنا ما يكفي من الاهتمام والدراسة؟ ومن هم أهم رواده؟

❊❊ كان هناك اهتمام بالأدب الشعبي من بعض المثقفين منذ العهد الاستعماري، منهم محمد بن شنب وولده سعد الدين (من المدية)، والغوثي محمد بخوشة (من ندرومة)، وأحمد طاهر (من مستغانم)، وبوليفة (من منطقة القبائل)، وبن سديرة (من بسكرة). واستمرت جهود بعضهم في فترة الاستقلال (محمد طاهر). وظهرت أسماء أخرى كتبت باللغة الفرنسية من أمثال محمد بلحلفاوي ومراد يلس وليلى قريش وخديجة خلادي ومحمد الأمين وعبد الحميد بن موسى. أما البحث باللغة العربية فمن رواده ليلى قريش والتلي بن الشيخ وأحمد الأمين والعربي دحو وعبد المالك مرتاض، الذين قدّم معظمهم رسائل جامعية في موضوع الأدب الشعبي الجزائري. وظهر جيل جديد من الدارسين منذ نهاية القرن العشرين. وساهمتُ وزملائي في تكوين بعضهم من أمثال عزي بوخالفة وحميد بوحبيب وعبد الحميد بوسماحة والعربي بن عاشور (الجزائر العاصمة)، وأحمد زغب (وادي سوف)، وبركة بوشيبة (بشار)، ومبروك دريدي (سطيف)، وعلي بولنوار (مسيلة)، وأحمد قنشوبة وعبد القادر فيطس ولخضر لوصيف (الجلفة). وإلى جانب ذلك لا بد من الإشارة إلى الأنثروبولوجيين الذين اعتنوا، بدورهم، بالتراث الشعبي؛ من أمثال نادر معروف (تلمسان)، وعبد الرحمان موساوي (وهران)، والحاج ملياني (مستغانم)، ومريم بوزيد (الجزائر)، وسليم درنوني (بسكرة)، ومبروك بوطقوقة (باتنة) وغيرهم. ويمكن القول بأن العناية بالأدب الشعبي في تزايد مع مر السنين، وهو أمر إيجابي، غير أن الملاحَظ أن جل هؤلاء يشتغلون في التعليم، وغير مؤطرين في هيئات منظمة تنجز أعمالا ميدانية وتتكفل بنشاطات تتعلق بالجمع والأرشفة والتدريب، مثلما هي الحال في بلدان أخرى، لأسباب مختلفة؛ مما يؤثر سلبا على مردوديتهم البحثية باستثناء بعضهم الذين ينشطون في مجال التأليف والكتابة في المجلات؛ من أمثال أحمد زغب وبركة بوشيبة وحميد بوحبيب وعزي بوخالفة، وكذلك الأنثروبولوجيين الذين ذكرت أسماءهم.

❊ماذا عن مشروعك الترجمي؟

❊❊ أواصل ترجمة بعض الأبحاث التي كتبها مستشرقون في الفترة الاستعمارية، والتي اهتمت بمدوناتهم؛ بغرض توفيرها للباحثين مترجمة إلى اللغة العربية؛ باعتبارها تراثا جزائريا لم يعد اليوم متوفرا. كما أواصل ترجمة أطروحات أكاديمية ميدانية قام بها أنثروبولوجيون جزائريون نُشرت بالفرنسية، وتكمن قيمتها في المنهجيات الحديثة، أردتُ توفيرها للقارئ العربي عامة، وللطلبة الذين لا يتيسر لهم الاطلاع عليها في اللغة الفرنسية..

❊ لك مكانتك العلمية البارزة في الدول العربية؛ فهل من مشاريع علمية مشتركة؟

❊❊ منذ ما يقارب عشر سنوات وأنا مواظب على حضور شهر التراث في تونس؛ حيث تُقام ندوة حول الحكاية ينظمها الأستاذ الباحث عبد الرحمان أيوب بسوسة. وقد حالت الظروف الصحية بسبب الكورونا دون تنظيم هذه التظاهرة الهامة. وأتعاون حاليا مع مجلة الموروث الشعبي الصادرة عن مركز التراث بالشارقة، فأنشر فيها مقالات حول الأدب الشعبي الجزائري، بعضها لي، وبعضها مترجم عما هو منشور باللغة الفرنسية. وهناك آفاق تعاون بخصوص تهيئة مواد لطلبة الدراسات العليا بالمعهد حول التراث اللامادي؛ تأليفا وترجمة. وكنتُ منذ مدة قصيرة مدعوا لحضور أيام التراث بالشارقة وتقديم محاضرات حول الأدب الشعبي ومناهج دراسته، غير أن الظروف حالت دون سفري، ودعوة أخرى من نفس الجهة إلى تقديم دروس في شهر أكتوبر لطلبة الدراسات العليا، كأستاذ زائر. كما رشحتني الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية المصرية التي يرأسها الدكتور أحمد مرسي والتي تصدر مجلة الفنون الشعبية، لنيل جائزة الدولة للمبدعين العرب لسنة 2021، والتي ينظم فعاليتها المجلس الأعلى للثقافة في مصر.

❊وهل للتراث الجزائري امتدادات خارج حدوده السياسية؟

❊❊ طبعا هناك تراث مشترك بين البلدان المغاربية بالخصوص، وبين البلاد العربية عموما، يتمثل في بعض أشكال الأدب مثل السير الشعبية (سيرة بني هلال) والشعر الجمعي والأمثال والألغاز... وفي ممارسات تراثية مختلفة. وهناك ضرورة للتواصل والعمل المشترك في مجال الأرشفة والبحث وتبادل التجارب. وكانت لنا تجربة في سنة 2007، بمناسبة سنة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، تمثلت في تنظيم ملتقى حول موضوع مشترك بين مختلف البلدان العربية، وهو موضوع "الخيمة كفضاء مشترك للعيش"؛ حيث قُدمت دراسات حول الأدب الشعبي المتعلق بالخيمة. وسمح هذا اللقاء بجمع عدد هام من المختصين في الثقافة الشعبية العربية، وكان مبادرة وطّدت العلاقة بينهم.

❊ دعوت إلى إنشاء مركز وطني لأرشفة التراث الشعبي، كيف؟

❊❊ مازالت الدعوة قائمة، وأتمنى أن تكون هناك إرادة سياسية لدى المؤسسة الرسمية (وزارة الثقافة) لتحقيق هذا المشروع وإنشاء مركز لأرشفة التراث اللامادي. ويمكن أن تتبنى هذا المشروع المكتبة الوطنية أو المركز الوطني للأرشيف، باعتبار التراث الشعبي الشفوي لا يقل قيمة عن التراث المخطوط والمكتوب الذي تهتم به المؤسستان. وفي هذه الحالة يمكن الاستفادة من مشروع قاعدة البيانات الرقمية التي وضعها المركز الوطني لبحوث ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا والتاريخ، وما يسعى إليه حاليا مركز "فاعلون" (مؤسسة حرة، نشأت بمبادرة من بعض الأساتذة الجامعيين المختصين في العلوم الاجتماعية) من تنظيم عملية أرشفة على المستوى الوطني، أعتقد أن الأمر يحتاج إلى عمل شامل، لا يمكن أن تقوم به جهة غير مختصة.

❊ ما هي حاجة الثقافة الشعبية للترويج الإعلامي والفني؟

= للإعلام دوره الهام في توعية الجزائريين بأهمية تراثهم اللامادي، الذي يحتاج إلى الحفظ عن طريق الأرشفة، وأن يكون قاعدة لبناء ثقافة جزائرية حديثة؛ من خلال الترويج لمواد التراث، والاهتمام بالدراسات التي تصدر حوله، وتقديمها للقراء والمشاهدين. وهناك أهمية خاصة بالمحافظة على الأرشيف المتعلق بالتراث، والموجود في كل من الإذاعة والتلفزيون، وتسجيله عن طريق الوسائط الرقمية، وتصنيفه وتوفيره للإيداع في قاعدة بيانات.

❊ حدثنا عن حضور المرأة في التراث الشعبي؟

❊❊خصصتُ عددا من أعمالي البحثية لظاهرة بطولة المرأة في مثل هذه الحكايات. وسميت المرأة التي تقوم بدور البطولة فيها بـ "البطلة الضحية". نشرت كتابين حول هذا الموضوع، هما "البطل الملحمي والبطلة الضحية في الأدب الشفوي الجزائري"، و"دور المرأة في الحكاية الشعبية الجزائرية". كما نشرت عددا من الحكايات التي ترويها النساء، تتعلق بموقفهن من النظام الأسري الذكوري الذي يتعامل مع المرأة؛ باعتبارها خاضعة لسلطة الرجل.

❊ كيف تبنى المسار الروائي عندنا التراث الشعبي؟

❊❊ استعانت بعض الروايات الجزائرية بالتراث، واستلهمته، واستعملت قيمه الرمزية، كرواية "نجمة" لكاتب ياسين، و"الجازية والدراويش" لعبد الحميد بن هدوقة، ورواية "نوار اللوز" للأعرج واسيني"، ورواية "إغفاءات حواء" لمحمد ديب، بالنسبة لرواد الرواية الجزائرية ومن جاء بعدهم، كـ "لونجة بنت الغول" لزهور ونيسي، وروايتي عبد الله بن منصور "قضاة الشرف" و"فصوص التيه"، ورواية علام حسين "خطوة في الجسد"، وكذلك الرواية التي نُشرت من سنتين والتي تحمل عنوان "حيزية أميرة العشق من بلد الزيبان" للزهاري لبتر. ونجد أيضا كثيرا من الروايات التي استعملت عناصر من الموروث في خطابها. وبالنسبة للرواية الأمازيغية الوليدة يأتي اسم "أعمر أمزداد" على رأس الكتّاب الذين استلهموا التراث الشعبي الأمازيغي، وكان من رواد الكتابة الروائية باللهجة القبائلية.

❊ ماهي أهم مشاريعك المنتظرة؟

❊❊ سأواصل مشروعي في البحث عن النصوص القديمة للتراث الشعبي الجزائري. وأواصل ترجمة ما كتبه الجزائريون الفرونكوفونيون، وكذلك ما قد يوجد في ميدان الدراسات. أفكر في جمع مقالاتي لطبعها، وأتطلع لوضع كتاب حول سيرة لراوية من الرواة المحترفين في الأماكن العامة والأسواق؛ لأني أعتبر أن هذه الفئة من الفنانين ظُلمت، ولم تعتن بها الثقافة الرسمية بمؤسساتها المختلفة بالرغم من الدور الهام الذي لعبوه في فترة الاحتلال، والنصف الثاني من القرن العشرين في حفظ الهوية الثقافية وصون الموروث.

وأعمل، حاليا، بالتعاون مع المركز الوطني للبحوث في ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا، على مواصلة إصدار مجلة "الأجدار"، التي ظهر عددها الأول تحت إشراف إسماعيل ليبارير. نشرته وزارة الثقافة في السنة الماضية، وهي فصلية، تتناول الموروث الثقافي الجزائري، أُسنِدت رئاسة تحريرها لي، واقترحتُ لها هيئة تحرير من بعض الأساتذة المتخصصين في التراث اللامادي والمادي. وتكفل المركز المذكور بالإشراف على طبعها وتوزيعها بالتعاون مع المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، تحت وصاية وزارة الثقافة. وقد أعددت عددها الأول، الذي هو في مرحلة التهيئة للطباعة.