من خلال تطويع عزلتهم وتعزيز قراءاتهم

الأدباء هم الأكثر استفادة من الوباء

الأدباء هم الأكثر استفادة من الوباء
  • القراءات: 642
❊نقلا عن صحيفة العرب ❊نقلا عن صحيفة العرب

تعيد حالة العزلة التي فرضها انتشار فيروس "كورونا" على المبدعين، اكتشاف الأنا، وتجعل لها معاني عميقة، وربما جذابة، كما ترسخ منابع القراءة والتزود المعرفي في مرحلة خصوصية، بينما تخلق قنوات بديلة فيها زخم معرفي، وتوفر للإبداع ألوانا وثيمات تواكب تحولات اللحظة، وتفرض في النهاية نواميسها على الكاتب.

فيما يواصل فيروس "كورونا" اجتراءه على الزحام، ملقيا نظرات باردة مشحونة بالتشفي على مسارح مغلقة ودور سينما معطلة، وتظاهرات ثقافية وفنية أطفئت مصابيحها وتأجلت مواقيت انعقادها، يلملم المبدع نثارات ذاته المتطايرة كشظايا هذا الوجود المنهار، قانعا بهدنة إجبارية يقضيها في قاعة العُزلة المغلقة، المفتوحة على فضاءات التأمل، حيث الإقامة المنزلية بشروطها المفروضة، وطقوسها النفسية المُربكة، وتوتراتها المُلْهمَة المُغَايرة.

نتساءل هنا؛ هل العزلة خسائر مطلقة، مادية ومعنوية، ورضوخ لعدم الاندماج الاجتماعي والمرض النفسي على طول الخط؟

تصل إجراءات مواجهة فيروس "كورونا" المستجد من حيث صرامتها وحيز تعميمها المكاني ومداها الزمني إلى توصيف الحالة الراهنة، والمتوقعة في القريب، بالتعرض الصادم لتلك الآثار بالغة الخطورة للعزلة، كالإحساس بالوحدة والتبدد والانزواء وفقدان القدرة على إقامة علاقات تفاعلية، وصولا إلى انعدام الثقة بالآخرين والاكتئاب المَرَضي، والاستسلام للأفكار والسلوكيات المزعجة والغياب المزمن للفرد كإنسان وكائن حي.

من جانب آخر، للإبداع استثناءاته وتجلياته، الأمر الذي وصل بالعزلة؛ حتى في أحلك الأزمات والمآسي الإنسانية العامة، مثل الحروب العالمية والمجاعات والأوبئة وغيرها، إلى أن تكون أحيانا وقودا لفلسفات متوهجة وتيارات أدبية وفنية متقدة، على الرغم مما قد تفرضه على المبدع من ضغوط نفسية واجتماعية، تنعكس على طريقته في ممارسة إبداعه.

يعيش الأديب حاليا وضعا اضطراريا ملتبسا، يدفعه بقوة إلى تحسس ما يمكن وصفه مجازا بعطايا العزلة، إذ يصعب القول إنه تُرتَجَى من الابتلاءات منافع. فإذا كان فيروس "كورونا" تمكن من قهر الصخب الثقافي بتجمعاته الرصينة المفيدة والضحلة الثرثارة، وكبد قطاعات ثقافية وفنية خسائر مادية فادحة، كما في مجال المتاحف ونشر الكتب والإنتاج السينمائي والمسرحي والحفلات الموسيقية والغنائية وغيرها، فإن سلوك الفيروس المتهجم الشرس، أحيا لدى الأديب نظريات وسلوكيات مضادة، سعيا إلى استثمار هذه العزلة في اكتشاف الذات وقنص العالم وتحقيق فوائد مباشرة، هكذا بكل تحديد، ودون مواربة.

ثمة مساران يمضي فيهما الأديب تحت مظلة العزلة الطارئة، أولهما بمعاونة المؤسسات الثقافية، الرسمية والأهلية، الخدمية والتجارية، التي لم يعد لها سوى الإعلان عن نشاطات وفعاليات واستراتيجيات مختلفة، ذات طابع إلكتروني في أغلب الأحوال، للحفاظ على المنظومة، وملء فراغ المشهد بنتاجات ملائمة.

أما المسار الثاني، فهو بيد الأديب وحده، من حيث خططه الذاتية لإنعاش قراءته وتلقيه وتحصيله الذهني والجمالي، ومن ثمة، تعزيز فرص نشاطه وابتكاره وإنتاجه، انطلاقا من الفهم الجيد للجوانب الإيجابية للعزلة، وهضم كافة الخبرات التي توصل إليها الفلاسفة والمبدعون وعلماء النفس والاجتماع.

وفق المسار الأول، انطلقت بالفعل مبادرات من قبيل "القراءة حياة" التي دشنتها الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، لتوصيل الكتب إلى المنازل بالمجان، لعل هناك من يرغب في تخزين وجبات ثقافية دسمة كغذاء للروح.

كما أعلنت وزارة الثقافة المصرية عن مبادرة "الثقافة بين إيديك"، لبث المواد الثقافية والفنية عبر قنوات "اليوتيوب" وحسابات "السوشيال ميديا" الخاصة بقطاعات الثقافة المتنوعة. تؤكد جميع دور النشر أن الإقبال على شراء الكتب، خاصة الروايات والقصص القصيرة تضاعف، وشمل أعمالا لأدباء عرب وعالميين، للدرجة التي نفدت الكثير من طبعات روايات، مثل "الطاعون" لألبير كامو، و«الحب في زمن الكوليرا" لغابرييل غارسيا ماركيز، وغيرها من الروايات التي تتجاوز حدود الأعمال التي تدور في حدود المرضى والأمراض المزمنة.

هنا يأتي المسار الثاني، الأكثر أهمية، الذي ينبغي على الأديب أن يوجده ذاتيا لاستغلال عزلته على نحو مثالي، يتسق مع مشروعه هو بشكل خاص دون غيره، وسر النجاح في هذا المسار هو الانتقاء، فالأمر ليس بالحشد الكمي، إنما بالاختيار الدقيق: ماذا يقرأ الأديب، وعلى أي مُنتَج إبداعي يطلع؟ إلى جانب استشفاف روح العزلة كحالة صفاء وتجرد وتصوف، وانعتاق من الفوضى والعشوائية والتشتت والضجيج والانشغالات المجانية المؤرقة، واقتراب من العمق الغائي للجوهر الإنساني.

هذا التكييف النفسي ضروري للأديب ليتجاوز إبحاره في العزلة مجرد الحصول على ساعات وقت إضافية، ينعم فيها بالقراءة والاطلاع والكتابة والراحة من الأعباء الحياتية، قياسا ببرنامج حياته السابقة، فكيفية الإفادة من هذه الهدايا الزمنية أكثر أهمية من عددها، لتتحول الهَدايا إلى هِداية في نهاية المطاف.

في الانعزال خلع للأقنعة، وارتداد إلى الوجه الحقيقي من أجل ارتدائه، فيكون الكاتب عابرا فوق حروفه إلى نواته وكُنهه وهدوئه وطمأنينته، ويحلق خارج التفكير المنمط والهواجس الطنانة والاستنباطات الآلية، مدفوعا بالثقة والرضا والمرح والطفولية والتخييل الحر.

الأديب في عُزلته، خارج الأنساق الحاكمة، تواق إلى نزع القشور، واختراق الأسطح، حيث تنعقد الرهانات على الطاقات الداخلية، والقدرات الكامنة للعزلة متعة مخبوءة في طياتها، بالتخفف من المتطلبات الجسدية والحسية، واللجوء إلى الصمت والتدبر لبلوغ فوانيس التنوير وشموع التيقظ، وهي بهذا المنظور، قد تصل إلى أن تكون عبادة أو سلوكا إيمانيا محمودا.

إن الأديب في عُزلته، خارج الأنساق الحاكمة، تواق إلى نزع القشور، واختراق الأسطح، حيث تنعقد الرهانات على الطاقات الداخلية، والقدرات الكامنة، والكنوز المستقرة في الضمير، والمساحات التي لم تُكتشف بعد في جزر الأعماق الدفينة.

قد يكون فقدان الآخرين، أو غيابهم مرحليا عن شبكة معطيات الأديب، من الأثمان الباهظة التي يدفعها قبل انخراطه في عزلته، لكنه في المقابل، يرى نفسه بوضوح للمرة الأولى، ليس كظل ولا صورة في المرآة، إنما يرى نفسه بعينيه، كشخص كامل الأهلية والتحرر، من غير فصام ولا ازدواجية، وهنا لا يصير التقيد الجسدي المحدود عبئا كبيرا، بالقياس إلى لا محدودية القفزات الروحانية والضوئية، واتساع الخطوات الذاتية التي لم تعد مقيدة بآخرين.