لترقية الفعل المسرحي وخلق فضاء تنافسي

أيام للأضواء الساطعة بعنابة

أيام للأضواء الساطعة بعنابة
  • 118
سميرة عوام سميرة عوام

انطلقت فعاليات الأيام الوطنية المسرحية للأضواء الساطعة في طبعتها الأولى، أوّل أمس، على خشبة المسرح الجهوي "عز الدين مجوبي" بعنابة، وسط أجواء فنية نابضة بالحياة جمعت بين متعة الفرجة المسرحية ووهج الإبداع الشبابي، حيث استهلت التظاهرة 

بعرض موجّه للأطفال بعنوان "الفأر الخيّاط"، وهو عمل مستوحى من التراث الطفولي بروح معاصرة، من تأليف نبيل رحماني وتصميم عاطف كريم، ومن إنتاج جمعية "مبدعون بلا حدود" الثقافية، جسّد رسالة تربوية فنية في قالب تفاعلي بديع نال إعجاب الحضور الصغير والكبير.

المسرحية حملت عنوانًا بسيطًا لكنه عميق في دلالته "الفأر الخيّاط"، الذي لا يقتصر على لعب دور الشخصية الرئيسية، بل يتحوّل إلى رمزٍ لطفلٍ صغير يسعى إلى تحقيق ذاته وسط عالم يزدري حجمه وقدراته. تدور القصة حول فأر يحب الخياطة، ويحاول أن يثبت مهارته في بيئة لا ترى فيه سوى كائن ضعيف، لكنه بالإرادة والمثابرة، ينجح في نسج الثقة والتقدير حوله، غرزةً بعد غرزة، وخيطًا بعد خيط.

جاء النص بأسلوب حكائي شفاف، سهلٍ في لغته، لكنّه محمّل بدلالات تربوية راقية هي قبول الذات، احترام الآخر، والعمل كقيمة إنسانية نبيلة. وقد تمكّن العرض من تقديم هذه القيم في إطار ترفيهي بعيد عن التلقين، وهو ما جعل الأطفال يتفاعلون تلقائيًا مع مجريات الأحداث.

استخدم العرض سينوغرافيا ملوّنة، مبنية على ديكور خفيف الحركة يتناسب مع طاقة الأطفال وخيالهم، إلى جانب إضاءة دافئة وملابس زاهية، أضفت على الخشبة أجواءً من البهجة والبساطة.

الحضور كان مكثفًا من الأطفال والأولياء، وقد لُوحظ تجاوب لافت من الصغار، من خلال الضحك، والتصفيق، وحتى الإجابات التلقائية على بعض تساؤلات الممثلين. وهو ما يعكس نجاح العرض في بناء جسر مباشر مع المتلقي الصغير، دون وسائط معقدة.

ما يميّز العمل أيضًا هو محافظته على إيقاع متوازن، فلا هو سريع يرهق انتباه الطفل، ولا بطيء يفقده الحماس، بل يمضي بسلاسة بين مشاهد قصيرة متتابعة، تحافظ على تدفق القصة واحتفاظ الأطفال بها في ذاكرتهم.

أما في الفترة المسائية، فشدّت مسرحية "طلقة حب" الأنظار، وهي عن نص وإخراج هاجر حملاوي، بإبداع بصري ساندته سينوغرافيا يزيد مسعي وكوريغرافيا جيهان بن طراد، في إنتاج لفرقة الفجر الذهبي للمسرح عنابة. عالجت موضوعات اجتماعية بقالب رومانسي عميق، وعبّر عن تناقضات المشاعر البشرية بين الحب والخذلان.

أطلقت فرقة "الفجر الذهبي" واحدة من أكثر العروض تعبيرًا عن الألم العاطفي المكبوت، من خلال مسرحية "طلقة حب"، التي تروي، عبر مونولوج داخلي طويل، حكاية امرأة تستعيد، في عزلة ذهنية، تفاصيل علاقة عاطفية انتهت على نحوٍ مفاجئ، تاركةً خلفها كومة من الأسئلة والخذلان.

لم يُقدَّم العرض كحكاية تقليدية، بل جاء في شكل شريط ذاكرة مفتوح، تتنقّل فيه البطلة بين محطات الألم، والدهشة، والحنين، والاحتراق البطيء. استغنت المخرجة عن الزخم البصري، واختارت بساطة المشهد لتجعل من الجسد والضوء عناصر ناطقة. اعتمدت السينوغرافيا على رموز قليلة (كرسي، ستارة، مرآة)، لكنها كثيفة المعنى، عزّزت الشعور بالوحدة والانكسار. أما الكوريغرافيا، فكانت لُغةً صامتة، تعبّر عما تعجز الكلمات عن قوله. تنقل الجسد عبر مساحة الألم والانفجار الداخلي، لترسم بحركاتها ملامح الانكسار والهروب من الذات.

قدّمت بطلة العرض أداءً نفسيًا عالي الحس، تماهت فيه مع الشخصية إلى الحدّ الذي اختفى فيه الخطّ الفاصل بين التمثيل والتجربة. كانت النظرات، والانحناءات، وحالات الصمت، تعبيرًا بليغًا عن هشاشة الكائن الإنساني حين يخذله الحب.

للإشارة الحدث، الذي تنظمه جمعية الطاووس الثقافية للفن المسرحي بالتنسيق مع مديرية الثقافة والفنون لولاية عنابة والمسرح الجهوي "عز الدين مجوبي"، يهدف إلى ترقية الفعل المسرحي الوطني وخلق فضاء تنافسي يُبرز مواهب الفرق الشابة في مجالي مسرح الكبار ومسرح الأطفال.

وتستمر الأيام الوطنية للأضواء الساطعة إلى غاية 18 جويلية، وتضم برنامجًا متنوعًا من العروض المسرحية القادمة من مختلف ولايات الوطن، حيث تم تقسيمها إلى فئتين، عروض موجهة للكبار، وأخرى مخصصة للأطفال، ما يمنح الجمهور باختلاف أعماره فرصة التفاعل مع المسرح الجزائري في حلته الشبابية المتجددة.