المطرب والمؤلف محند الرشيد يوارى الثرى بمقبرة القطار
أمين التراث الفني والزاهد عن الأضواء

- 1091

رحل الفنان محند الرشيد الذي ظلّ يثير حنين جمهوره لمنطقة القبائل بكلّ ما فيها من ذكريات وماض يحمل معالم الطفولة والصبا، كما تغنى الراحل بقصبته وعلاقته بشيخ شيوخ الشعبي الحاج العنقى.. وبقي الصوت الأصيل النابع من عمق الجزائر التي لا تفنى، وظلّ محتفظا بشموخه وبأنفه المرفوعة منذ أن كان طفلا فقيرا يتحدى بؤس الاستعمار كالرجال الأشاوس. توفي أوّل أمس بالعاصمة، الفنان الكبير سي محند الرشيد عن عمر ناهز الـ77 سنة، وقد ووري الثرى أمس بمقبرة القطار في العاصمة، إلى جانب العديد من أجيال الفنانين الكبار الذين سكنوا إلى الأبد هذه المقبرة، وولد الراحل في 12 فيفري 1939 بالقصبة وتنحدر عائلته من منطقة عزازقة بقلب بلاد القبائل التي طالما أعطت أسماء لامعة في عالم الفن والموسيقى.
كان يصف نفسه بالشعبي الزوالي ابن العائلة الفقيرة المعدمة التي كان فيها الأب والابن الأكبر يصنعان الغرابيل، ليبيعها الطفل محند في سوق القطار، وكان حينها جارا للعنقى الذي أثّر بعدها في حياته، درس بمدرسة باب الجديد لكن العمل كان يشغله لضمان لقمة العيش. لم يكن الراحل يتقن القبائلية فتعلّمها من الفنانين، منهم السيدة جميلة وكمال حمادي والشيخ نور الدين والسيدة بوقرموح، ثم التحق للعمل كفنان بالإذاعة بعد الاتصال بالراحل مصطفى اسكندراني ابتداء من 1959، وبعدها أصبح يلحّن له في القبائلي كمال حمادي ومحبوباتي، وظلت بعض أغانيه محفورة في الذاكرة منها مثلا أغنية "ايافلاحن اكرزن" (أيها الفلاحون) و"وردية"، كما اشتغل منتجا ومنشطا في الإذاعة الوطنية وبالضبط في القناة الثانية، حيث نشط حصة "ايشناين اوزكا" (مطربي الغد) أما بالقناة الأولى فقد كان يقدم برنامجا يعنى بأغنية الشعبي.
يعتبر الراحل ذاكرة الفن الجزائري، خاصة في نوع الشعبي والقبائلي، فلقد ظلّ طيلة حياته (خاصة مع بداية سنة 1941) يجمع أعمال وأرشيف الفنانين، لذلك توفّرت لديه مادة هائلة من الوثائق الفنية منها المكتوبة ومنها الصور والتسجيلات النادرة ويعتبر الأوّل الذي يملك تراث العنقى، فهو يملك حتى وثائقه الشخصية، وكان مع الشيخ أينما رحل وكان العنقى يمسك برجله كي يبقى معه طوال الجلسة ويعتبره ذاكرته وتبناه في الشعبي مع 36 فنانا، وكان يحفظ له النصوص بالكتابة ويحضر تسجيلاته، لذلك احتفظ بـ1500 قصيدة، كما كوّن أرشيفا لا بأس به عن الراحل عباس فرحات والرئيس الفرنسي ديغول. جمع الراحل وثائق نادرة وصورا حية لعمالقة الفن الجزائري، منهم الشيخ ابن زكري والعنقى واحسن العنابي ومريزق، كما جمع عشرات الأسطوانات النادرة من بينها ذات الـ45 و78 لفة أنتجها العديد من الفنانين، منهم سعيد بسطنجي (حسن بدري) وكذا تسجيلات لحوارات نادرة مع فنانين كبار هي غير متوفرة اليوم إلا عنده.
على الرغم من كلّ هذه الكنوز، ظل الراحل مغيّبا ولا تتم استضافته أو دعوته عبر مختلف المناسبات الفنية قصد استغلال ما يملك من أرشيف يخص الذاكرة الوطنية، وهو الأمر الذي كان يؤلمه ويحز في نفسه، زد على ذلك، فإنّ الراحل لم يكرّم من طرف المؤسسات الثقافية عندنا وظلّ مغمورا. تتلمذ الفنان الراحل على يد الموسيقي المعروف موح الصغير لعمى، وشقّ مشواره الغنائي منذ سنة 1960 ليحقّق نجاحا باهرا في الأغنية القبائلية، كما أدى الشعبي وكوّن فيه مواهب شابة آنذاك، وللراحل 20 أغنية في الشعبي و24 في القبائلي لا تزال في أرشيف الإذاعة. يرحل الرشيد بعدما خدم الجزائر كغيره من العمالقة دون أن ينتظر المقابل أو الأضواء، معتبرا كل ذلك مجرد واجب بسيط، رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان.