الباحث مهدي براشد يقدّم مقاربة جديدة:
أغنية الشعبي مرتبطة بثقافة مدينة القصبة وطقوسها

- 966

يرى الأستاذ والباحث في أغنية الشعبي مهدي براشد، أنه لا توجد مدينة ارتبط اسمها أو ارتبطت حياتها الثقافية أو حتى أداؤها اللساني، بلون غنائي، مثلما ارتبطت، بذلك، مدينة الجزائر. والقصد هنا ما اصطُلح على تسميته “دزاير” (قصبة بني مزغنة وفحصها) وارتباطها بأغنية "الشعبي"، إلى درجة أن أصبح هذا اللون الغنائي عنصرا هوياتيا بامتياز لهذه المدينة. كما أصبح الحديث عن القصبة يحيل على هذه الأغنية، وعلى مؤسّسها الحاج محمد العنقى.
في مداخلة قدّمها، أول أمس السبت خلال مشاركته في تظاهرة "نوفمبر فن" بقلعة الجزائر، أشار براشد إلى أن فضاء عرس الشعبي هو فضاء طقوسي، ارتبط بمناسبتين دينيتين عند الجزائريين، الأولى هي الزواج؛ باعتباره نصف الدين، والعزوبية؛ باعتبارها صفة منافية للإسلام؛ لذلك نسمع عند الجزائريين عبارات من قبيل "كَمَّلْ دِينَكْ" و"مَا تَتْزَوَجْشْ؟ تْمُوتْ پَاپَاسْ؟"، والثانية هي الختان أو الطهارة رغم أن الختان ليس ركنا في العقيدة الإسلامية، حتى إن الأحاديث الواردة فيه وردت في باب الطهارة، إلا أن الجزائريين يعتبرون أن الطفل ما لم يختَّن لم يدخل الإسلام. ولا نجد عرسا بالشعبي لأي مناسبة دينية أخرى. ومن العيب حتى على أهل "العروسة"، إقامة عرس شعبي لبنتهم. كما أشار المحاضر إلى أن فضاء عرس الشعبي، فضاء ذكوري. والمدوّنة مدوّنة ذكورية، ولكن رغم ذلك سنجد أن القاموس المستعمل في عرس الشعبي، يختلف عن قاموس فضاءات أخرى، قد تكون فيها أغنية الشعبي موجودة مثل "الْمَحْشَاشَاتْ" (جمع "مَحْشَاشَهْ" المكان الذي يتناول فيه الحشيش.
و"التْبَارَنْ" (جمع "تْبَرْنَهْ" لفظة إسبانية "taverna" وتعني الحانة). وقال: "قديما، كانت أعراس الشعبي تقام في وسط الدار بحي القصبة وجناين ديار الفحص بأعالي القصبة "الطغارا، السكالة، الأبيار، بوزريعة، دالي ابراهيم، الشراقة، بابا احسن، بئر مراد رايس... وفي المقاهي، هناك تسجيل للحاج محمد العنقى، يقول فيه في نهاية أحد الأعراس، إنه اشتغل في عرس مع الشيخ الناظور في 1923، بقهوة لارابي بزنقية فرينة". وأوضح براشد: "يخطئ كثير من الذين درسوا ظاهرة الشعبي حين يتحدّثون عن أعراس شعبي في سطوح القصبة، لأن السْطُوحْ (جمع سْطَحْ) في القصبة لم تكن تقام فيها الأعراس، أوّلا: لأنه فضاء نسائي، وثانيا لأن سطوح دويرات القصبة (جمع تصغير لـدويرة بيت في القصبة، كانت سطوحا ضيقة لا تتسع لإقامة عرس. إقامة عرس الشعبي في السطوح جاء بعد الاستقلال ودخول الجزائريين إلى المدينة الأوروبية التي لم تكن شققها على اتساعها، مواتية لإقامة عرس، فلجأ الدزيريون إلى سطوح العمارات لإقامة الأعراس.
واستمر الوضع إلى أن ظهرت قاعات الحفلات، التي كانت حكرا، في البداية، على أعراس النساء فقط الْمْسَامَعْ، إذ لم يكن الدزيريون (سكان دزاير) يتصورون إقامة عرس شعبي في فضاء مغلق". ويبدأ عرس الشعبي بعد العشاء، وينتهي مع الفجر. ويقال إن استمراره إلى غاية الفجر إنما هو وسيلة للبقاء مع الضيوف، الذين يأتون من مكان بعيد ولا يجدون وسيلة للعودة إلى بيوتهم ولا أين ينامون، فكانت السهرة حتى مطلع الفجر، موعد فتح المقاهي وبداية المواصلات. وكان العرس يبدأ بـ"التوشية"، وينتهي بـ "الصبوحي" (من الصباح)، وعادة ما كان الشيخ يؤدي أغنية "نجم الدجى عسعاس"، وهي زجل للشيخ بن مسايب. ونبّه المتحدث إلى أمر هام، وهو أن عرس الشعبي مفتوح للجميع بدون دعوة، فالدعوة تقتصر على العشاء. أما العرس فكان قديما مفتوحا لكل أهل الحي وأصدقاء أهل العرس، وأصدقاء أصدقاء أصدقائهم. ونميّز في عرس الشعبي عدة أنماط من الناس، يجمعهم شيء واحد، هو هذا الفن الموسيقي.