الخبـــير الاستراتيــــجي امحنــــد بـــرقـــوق لــــ”المســــاء”:

مناورات فرنسا كانت تهدف لإفشال مخطط بناء الدولة الجزائرية

مناورات فرنسا كانت تهدف لإفشال مخطط بناء الدولة الجزائرية
  • القراءات: 2530
حاورته:  مليكــة خـــلاف حاورته: مليكــة خـــلاف
أكد الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي، السيد امحند برقوق، أن اتفاقيات ايفيان استندت إلى قوة الجبهة الداخلية واللحمة التي كانت موجودة بين الجيش الوطني وجبهة التحرير الوطني، مما أعطى الطرف الجزائري القوة في توجيه المسار وتحقيق الغايات التي اندلعت الثورة من أجلها، مضيفا في حديث خص به ”المساء” عشية الاحتفال بالفاتح من نوفمبر، أن مناورات الطرف الفرنسي كانت تهدف لإفشال مخطط بناء الدولة الجزائرية والمشروع التاريخي المتميز للثورة. كما قدم الخبير الاستراتيجي رؤية واضحة للمعالم التي تحملها هذه الاتفاقيات على مستوى العلاقات الدولية، مما جعلها أبرز المراجع للحركات التحررية ومعاهد الدبلوماسية في العالم.

لم تقتصر مفاوضات ايفيان على وقف الحرب، بل شملت أيضا الدفاع عن الوحدة الترابية للجزائر، بنظركم ما هي الاستراتيجية التي اعتمدها الطرف الجزائري من أجل تحقيق هذا الطموح؟
لقد رسمت الثورة التحريرية لنفسها منذ البداية معالم بناء الدولة، من خلال التركيز على مفهوم الهوية الجزائرية بكل أبعادها، ثم الحديث عن فكرة السيادة غير المنقوصة ووحدة الشعب، فثلاثية المبادئ هذه كانت بمثابة القاعدة الصلبة التي واجهت دبلوماسية الثورة منذ عقد مؤتمر باندونغ سنة 1955.
ومنذ إنشاء الحكومة المؤقتة في 1958، انصب الهدف على إعطاء بعد جديد لنضال الشعب الجزائري، والمعنى هنا ليس فقط تمثيل القضية والدفاع عنها  ولكن أيضا الوصول إلى بناء استراتيجيات للتفاوض مع المحتل لتحقيق المبادئ الثلاثة السالفة الذكر.
واعتقد أن المناورة الاستعمارية التي كانت تسعى للفصل بين الشمال و الجنوب، وتحقيق ما سمي بخارطة الصحراء سنة 1956، أو ما سمي بمشروع أوساريس كان بمثابة الامتحان الصعب أمام الدبلوماسية التي نجحت فيه، من خلال التوصل إلى اتفاقية تقرير المصير ووقف إطلاق النار يوم 18 مارس 1962، والتي احتفظت بوحدة الإقليم ووحدة الشعب وهوية الجزائر، وهذه الثلاثية أضفت التميّز على تاريخ المفاوضات.
وإذا تمعنّا في ما كتب حول اتفاقيات ايفيان سواء من قبل رضا مالك أو سعد دحلب أو غيرهما، فإننا نلمس صعوبة المجال السياسي الذي تمت فيه العملية التفاوضية، ولكن أيضا حنكة المفاوض الجزائري على قلّة خبرته في مقابل قناعته العميقة بوحدة بلده وعدالة قضيته ليصل في النهاية إلى استقلال الجزائر يوم الخامس من شهر جويلية.
لديّ ملاحظة في هذا السياق، فعلى عكس الدول التي تحصلت على استقلالها تفاوضيا، فالجزائر دخلت هذه المفاوضات بحكم قوة الجبهة الداخلية واللحمة التي كانت موجودة بين الجيش الوطني وجبهة التحرير الوطني. وهو ما أعطى للمفاوض هذه القوة في توجيه المسار وتحقيق الغايات التي اندلعت الثورة من أجلها.

تضمن مخطط ”غي مولي” محاولات تقسيم التراب الجزائري، و هو ما كان وراء تمديد الحرب، كيف واجهت الحكومة المؤقتة مراوغات الطرف الفرنسي؟
الحكومة المؤقتة عادت قبل كل شيء بفكرة أن الشعب موحد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن أقصى الشرق إلى غرب البلاد، ولا يمكن لأحد أن يتنازل عن حق هذا الشعب في أرضه وإقليمه ولكن أيضا في ثروته مادام أن منطق ”غي مولي”، لا يعني التقسيم الجغرافي بقدر ما يعني التقسيم الجيو اقتصادي، ففي اكتشاف النفط واستغلاله وبداية الحديث عن الطاقة وإعادة بناء القوة الفرنسية، جعل الحكومات الفرنسية المتتالية منذ 1956، تتحدث عن فصل  الصحراء عن الشمال وأيضا الحديث عن خارطة الصحراء الكبرى التي أرادت من خلالها تمييع هويات الدول والمجتمع.والمفاوض منذ البداية كان واضحا، وكان يعمل وفق هدف الحفاظ على وحدة الشعب والإقليم، كما كان واعيا أيضا بمناورة الطرف الفرنسي الذي كان يسعى لإفشال مخطط بناء الدولة الجزائرية، باستعادة استقلالها و سيادتها ولكن أيضا إفشال المشروع التاريخي للثورة، وهو مشروع تاريخي بامتياز لأنه يهدف أساسا إلى تحقيق إعادة بناء دولة جزائرية بمعانيها المختلفة الاقتصادية، الاجتماعية والهوياتية. وكل النقاشات التي دارت حول مختلف مراحل المفاوضات كانت حول محاولة استدراج المفاوضين باستراتيجيات تفاوض متباينة انتهت في النهاية أمام شراسة المقاومة الوطنية، وقبول وقف إطلاق النار ليس بمعناه التكتيكي ولكن بمغازيه المختلفة بالنسبة للثورة التحريرية المظفّرة.

من المعروف في العلاقات الدولية وعند إجراء أي عملية مفاوضات وجود مبادئ أساسية لا يمكن التنازل عنها، غير أن التوصل إلى التوافق مع الطرف الآخر يقتضي إضفاء بعض المرونة، ما رأيكم بخصوص تعامل الطرف الجزائري مع هذه النقطة والمسائل التي يكون قد تنازل عنها؟
المفاوض واقعي، وعليه أن يضع سلّما للأولويات والخطوط الحمراء. و بالرجوع إلى كتابات اتفاقيات ايفيان، نجد أن الحديث ينصب على استمرار بعض الامتيازات الفرنسية كما هو الشأن للمواقع النووية ومرسى الكبير وغيرها. كان ذلك ليس بمثابة اعتراف بامتياز وحق بقدر ما هو أيضا قبول تكتيكي لهذا التصور لبعض المصالح التي يجب مقايضتها من أجل مشروع استراتيجي، ورأينا أن مختلف هذه ”التنازلات” سرعان ما انتهت بإجلاء آخر جندي من الجزائر سنة 1967، و أيضا باستعادة الجزائر لسيادتها كاملة وغير منقوصة على ثرواتها الطبيعية المنجمية سنة 1966، و الطاقوية سنة 1971، والوصول أيضا إلى حديث ليس له علاقة بين دولة حديثة الاستقلال، بل مع دولة استعادت سيادتها واستقلالها ودولة أخرى كغير الدول، لأن فرنسا أقامت مع مستعمراتها في فرنسا وجنوب الصحراء اتفاقيات حصرية من خلال ما سمي باتفاقية التعاون مقابل الحصول على الاستقلال، والتي كانت تنظمها وزارة التعاون الفرنسية حسب تصورات مستقرة وفق ما يسمى بالمنطق الفرنسي ”العالم الخاص”، والذي يشكل بمثابة منطقة نفوذ. كما أن الجزائر منذ البداية اعتبرت أن الثورة التحريرية هي ثورة استرجاع السيادة والكرامة ولا يمكنها أن تكون مثل هذه الدول.

مثلما نعلم كانت هناك خلافات بين قيادة جيش التحرير الوطني و الحكومة المؤقتة فيما يخص المفاوضات، هل يعد ذلك من بديهيات السياسة الخارجية لكل دولة؟
 لا نتحدث هنا عن تفاوض من طرف دولة، بل عن تفاوض من قبل حركة التحرير التي لها أبعاد مختلفة ولها أيضا جناحان متكاملان أي جيش التحرير وجبهة التحرير بكل أبعادها، كما أنه لا يمكن من الناحية التاريخية تصور إنشاء حكومة مؤقتة بوجود توافق بين هذين الجناحين المتكاملين و ما كان أيضا بالنتيجة وقف إطلاق النار، والتوقيع على اتفاقيات ايفيان  نتاج هذا التوافق. بمعنى أنه لا يمكن الحديث عن التزام جيش التحرير فيما يخص وقف إطلاق النار دون وجود مشاركة قيادة جبهة التحرير في توجيه هذه المفاوضات والمساهمة بمقترحات و معطيات. وهذا الالتزام كان واضحا في الفترة التي تلت يوم 19 مارس بعد الساعة الثانية عشر، واعتقد أن منطق الدولة ومبدأ السيادة والاستقلال هو مبدأ مشترك بين مختلف مؤسسات الثورة التحريرية المظفّرة.

مازالت أطراف فرنسية مترددة إزاء اتفاقيات ايفيان، ألا تعتقد أن ذلك يعكس طبيعة العلاقات الجزائرية ـ الفرنسية التي لم تتخلص بعد من إرث الماضي؟
الاتفاقية كانت بين دولة فرنسية مستعمرة وحركة تحرر، والتي نتج عنها استعادة الاستقلال وسيادة الدولة و كل ما أتى بعده ينحصر بين دولتين ذات سيادة واستقلال.
وبالتالي فإنه لا يمكن الحديث عن ترددات بقدر ما يعني العلاقات بين الجزائر وفرنسا، فلا يمكن أن تكون  هذه العلاقات عادية بحكم التفاعل التاريخي السلبي من قبل المستعمر الفرنسي وما نتج عنه من منطلقات و قناعات تجاه الآخر، كما هو الشأن  لبعض الأطراف الفرنسية التي لم تر في استقلال الجزائر مصلحة لها و سعت سنة 1961، إلى منع بروز الدولة الجزائرية من خلال إنشاء المنظمة العسكرية السرية، والتي كانت بمثابة الآلة العسكرية لمعترضي استقلال الجزائر.

قبل الطرف الجزائري البند المتعلق بالتجارب النووية الفرنسية في الصحراء بحكم تمسك باريس به، مع تكفّلها بالخسائر التي تنجم عن ذلك، غير أنه تبين بعد مرور عقود من الزمن رفض فرنسا لحد الآن منح حقوق المتضررين من هذه التجارب، ما هو تعليقكم حول هذا الموضوع؟
لفرنسا قانون خاص لتعويض المتضررين من التجارب النووية، وإلى اليوم نسجل وجود حالات تشوه خلقية وتبعات مرضية لضحايا هذه التجارب، ولا ننسى أيضا أن فرنسا قد تسببت في حادثة نووية خطيرة وهي حادثة ”بيرين” التي نتجت عنها سحابة نووية مشعة والتي لا يعلم أحد مدى تأثيرها. ولكن هناك مسؤولية قانونية للدولة الفرنسية ليس فقط تجاه الضحايا و أهاليهم، بل أيضا تجاه الجزائر بحكم أن الإشعاع النووي لا ينفذ في سنوات  أو عقود بل قد يمتد إلى آلاف السنين.
اعتقد أن التعويضات هي عملية قانونية يمكن أن تكون من طرف جمعيات مدافعة عن الضحايا والبيئة في المناطق التي عرفت هذه التجارب والتي يمكن أن تشكل نوعا من العدالة التاريخية للضحايا. وفرنسا التي لا تريد إلى حد الآن الاعتراف ببشاعة جرائمها في الجزائر عليها بنظري مع مرور أزيد من 52 سنة من الاستقلال، أن تقوم مثل ما قامت به إيطاليا منذ سنوات بطلب الغفران من الذين كانوا ضحية ذلك، و الشعب الجزائري بأكمله قد عانى من ويلات الاستعمار منذ احتلال الجزائر.

هل يمكن اعتبار مفاوضات ايفيان بمثابة مرجع للسياسة الدولية الراهنة في مجال فض النزاعات في العالم، وما هي بنظركم نقاط القوة التي يمكن استلهامها من هذه الاتفاقيات لضمان سير أي عملية تفاوضية وإنجاحها؟
المسار التفاوضي في حد ذاته كان بمثابة مدرسة لأننا أمام شباب لم يتخرجوا من مدارس الدبلوماسية، بل تخرجوا من مدرسة النضال الوطني و الثورة، كما استطاعوا أن يجابهوا الترسانة الدبلوماسية والقانونية لأحد أكبر أربع دول في العالم، مع تحقيق الغايات التي انتفض الشعب الجزائري من أجلها وهي استعادة الدولة وسيادتها واستقلالها.
ويمكن تلخيص مميزات الاتفاقية في أربع نقاط وهي عقلانية المفاوضين و ارتباطهم بمبادئ وأهداف ثورة التحرير، القدرة على التعامل مع مختلف المضايقات والضغوط المجالية في إطار التفاوض وخارجه، فبالرجوع إلى بعض شهادات رضا مالك، وغيره فإن العملية التفاوضية لم تكن سهلة التوافق الموجود بين الفعل الدبلوماسي والعمل المسلح.
وأخيرا أصبحت هذه الاتفاقيات بمثابة معلم ومنارة للحركات التحريرية الأخرى، ونحن أمام واقعة تاريخية ستدرس لعقود وقرون مستقبلا.