"عمر الصغير" لسهيلة عميرات

نموذج عن انخراط الطفل الجزائري في الثورة

نموذج عن انخراط الطفل الجزائري في الثورة
  • القراءات: 14440
مريم. ن مريم. ن
عاش أطفال الجزائر الثورة، فكانوا أبطالا برز منهم اسم الصغير عمر الذي استشهد في 8 أكتوبر سنة 1957، تاركا سجلا من المآثر الإنسانية التي هزمت الاستعمار إلى الأبد، وسيمكّن كتاب "عمر الصغير" للكاتبة سهيلة عميرات الذي صدر مؤخّرا في طبعة باللغة العربية، ترجمها الأستاذ مراد وزناجي، جيل الشباب من اكتشاف هذه الشخصية الثورية.
تحوّل عمر بعد انتصار الثورة الجزائرية إلى رمز لتضحيات أطفال الجزائر، فهو أصغر فدائي في الثورة دخل عالم النضال وسنه لم يتجاوز التاسعة من عمره، عندما رافق والده العضو في حزب الشعب إلى الاجتماعات السرية وكان يستمتع بذلك كثيرا، إذ كان يلتزم الهدوء تماما كالمناضلين الكبار ويصغي لأحاديثهم وينجذب لخطبهم، على الرغم من أنه لم يكن يفهم كثيرا مما يقولونه، وكان يحلم بأن تندحر فرنسا الاستعمارية وكفى.
الكتاب مساهمة في نشر الثقافة التاريخية وسط الشباب بأسلوب روائي شيق، حيث سيتعرّف القراء، منهم الصغار أيضا، على طفل مثلهم يلعب ويلهو ويتحدّث بلسانهم، لكنه ذاق أيضا مرارة وقساوة المستعمر الذي لم يرحم براءته وجرده من كل شيء حتى من حقه في الحياة.
ارتبط اسم عمر بالقصبة فرضع حليبها وتربى على قيمها وتراثها وعلى نضالها أيضا، وشاطر أبناءها الحياة والأحلام والثورة، واستطاع رغم صغره أن يكون واحدا من الأبطال الذين سقطوا فيها، منهم لابوانت وحسيبة وبن مهيدي وغيرهم كثيرون، فعاش عمر واحتك بكبار المناضلين الذين وضعوا ثقتهم فيه رغم سنه الصغيرة جدا، فكانوا يكلّفونه بمهمات حسّاسة وسرية، ونتيجة اجتهاده وإخلاصه للثورة، قال عنه أحد القادة العسكريين الفرنسيين ـ ما معناه ـ؛ "إنّ الإمساك بهذا الطفل سيسمح لنا بإلقاء القبض على بقية عناصر فوج القصبة"، وتجرّد عمر من ثوب الطفولة وارتدى لباس الرجولة مبكرا وتخلى عن المدرسة من أجل أداء مهامه الوطنية.
للإشارة، فإنّ الكتاب في نسخته الأصلية (بالفرنسية) صدر بمناسبة خمسينية الاستقلال وأرادت كاتبته من خلاله أن تعود إلى ملحمة هذا البطل الذي لم يكن أبدا صغيرا، فهي من قريبات الشهيد عمر ياسف (ابنة خالته) تأثّرت كغيرها بقصته وخزّنت في ذاكرتها التفاصيل، إلى أن جاءت الفرصة، حينما توفيت السيدة ذهبية والدة عمر سنة 2007 لتقرّر تدوين هذه الذاكرة.
صبر عمر على عدم رؤية أمه وأبيه وإخوته وأخواته وجده وجدته لأشهر عديدة بعد أن شغله عنهم العمل الفدائي، وتخلى أيضا عن ألعابه المفضّلة مع أصدقائه، فأين ذهب خوفه الذي يسكن عادة الأطفال في سنه وكيف استطاع أن يحفر اسمه في تاريخ معركة الجزائر؟.
لم يرهب هذا الطفل اقتحام المظليين لمنازل وسطوح القصبة، وحمل الرسائل بأمانة وشجاعة في محفظته وخطف المكروفون خفية لمخاطبة الجزائريين أثناء إضراب الثمانية أيام للرفع من معنوياتهم، كما اجتاز الحواجز الأمنية الموجودة بالقصبة، وكم من مرة سار في أزقتها والفدائيون يمشون وراءه وقد استأمنوه على مصيرهم.
تحاول مؤلفة الكتاب أن تسمع إجابات عمر على أسئلتها التي لا تنتهي أبدا، مثلا، منها شغفها بمعرفة التفاصيل الأخيرة التي سبقت استشهاده وهو في سن الـ13 عاما، حيث فجّرت القوات الفرنسية الملجأ الذي كان يختبئ فيه مع زملائه الثوار في المنزل رقم 5 بشارع أبديرام يوم 8 أكتوبر 1957، كما تحاول الكاتبة أن تحدّثه وتؤكّد له بأنّه دخل التاريخ وولج قلوب الجزائريين ودخل مدارس الجزائر الحرة.
تصرّ الكاتبة في مرات عديدة على مناجاة عمر وتدعوه إلى أن يصف لها الجنة التي يسكنها كغيره من شهداء الجزائر، تسأله قائلة؛ "هل التقيت هناك مع أحمد لطافي الطفل الذي أدى دورك في فيلم "معركة الجزائر" والذي توفي منذ سنوات ودفن قربك بمقبرة القطار؟" إلى أن تقرر بأنّها لن تزعج عمر بمزيد من الأسئلة بل تدعوه إلى قراءة ما كتبته عنه وتتحداه إن كان يستطيع مقاومة دموعه.
في البداية، تصف الكاتبة الصغير عمر عندما يسند ظهره إلى الحائط ويداه في جيبي سرواله، ينظر إلى أصدقائه يلعبون ولامبالاته ظاهرة للعيان، فكره شارد ولا يمكنه التركيز في شيء معين، يتمنى أن يكون مثلهم أحيانا "طفل وفقط" لا يفكر سوى في ألعاب الكريات الصغيرة والكرة والدراجة والتنزه في المدينة القديمة والحي الأوروبي.. لكنه لم يعد طفلا منذ التحاقه بفوج فدائيي القصبة حينما بلغ التسع سنوات، وعمره الآن 11 سنة أصبح طفلا راشدا وعالمه عالم الراشدين الذين يحاربون العدو، وعالمه هو عالم الخوف والموت والعذاب والصمت وكتم الأسرار.
تؤكّد الكاتبة على ذكاء الطفل الحاد، وتذكر أنه مرة وهو يلعب، شاهد شابا فدائيا مارا يظهر مسدسه من تحت سترته فاقترب منه لينبهه بالقول؛ "سيدي إن منديلك يتدلى"، وهنا أدرك الفدائي ذكاءه وطلب منه المساعدة كي يصل إلى عنوان يجهله بالقصبة، وحمل عمر على كتفيه فتبسم الصغير قائلا؛ "إن أصحاب المناديل أصدقائي".
كانت عائلة عمر المجاهدة تعرف تحرّكات الابن وتحاول إخفاءها كي لا يكتشف أمره ولا تمنعه من أدائها، كان والده متلهفا لرؤيته يكبر دون أن يتحمّل هذا العبء، لكنه في نفس الوقت لم يكن ممانعا لنشاطه وكانت أمه ذهبية تتسلّم منه السلاح الذي يجلبه في محفظته وتدسه في لفائف أخيه الرضيع أبو بكر، وكانت تساند ابنها إلى النهاية، واستمرت المسيرة إلى أن أصبح الصغير عمر مطلوبا من الجهات الأمنية، أي الشرطة والمظليين والقبعات الخضر والحمر والزرق وخصّص الجلاد ماسو مكافأة لكلّ من يبلّغ عنه، بل والوعد بفيلا فاخرة لمن يساعد في إلقاء القبض عليه وكأنه إرهابي خطير.
يستعرض الكتاب مسيرة أشخاص كانوا على علاقة وطيدة بعمر، منهم خاله ياسف سعدي الذي كان يكنى بـ"الأخ الأكبر" وظروف اعتقاله التي آلمت كثيرا عمر، وكذا نضال عائلته وبعض المناضلين خاصة الذين استشهد معهم وهم؛ علي لابوانت وحسيبة بن بوعلي ومحمود بوحاميدي، وسردت الكاتبة مواقف هؤلاء الشهداء وتفاصيل تحرّكاتهم وحواراتهم بعد اعتقال ياسف سعدي (السي جعفر)، ويتذكّر عمر ذكريات جدته كلثومة التي كانت أوّل من استعملت "الحايك" للتنكّر في الثورة حينما ألبسته لكريم بلقاسم، إلى جانب الجوارب، كي يخرج من القصبة، وقد رأى ابن كريم الصغير المنظر فبكى، ليرد عليه أبوه البطل بالقبائلية؛ "ابني لا تبكي فسنحطم فرنسا" والحقيقة أنّ جماعة عمر فكرت في "الحايك" لتغيير المخبأ ورؤية العائلة التي لم ترها منذ أشهر، علما أن أخوال وأب عمر كانوا تحت التعذيب والاستنطاق ولم يعد في البيت سوى الجدة.
تسرد الكاتبة التفاصيل التي تهزّ أيّ قارئ لتصل إلى اليوم المشهود، وهو تفجير المخبأ بعد محاصرة القصبة وسدّ منافذها والانتظار أمام شارع أبديرام، وكانت الأم غير بعيدة تتألم وتدرك بأنّها الجولة الأخيرة مع عمر، تصرخ وتقول بأنّ ابنها مجرد طفل صغير، لكن ذلك لم يكن يعني شيئا للمظليين، أصبحت تتذكر الماضي وتتأسّف لأنّها لم تستقبله في البيت لخوفها عليه، لو كانت تعلم، لتركته تقبله وليراه إخوته، وهي أشياء ظلت تردّدها بعد الاستقلال، الأب وبعد التعذيب والاستنطاق، جاء ومكث على بعد أمتار يترقب وفجأة ينسف المبنى ويستشهد الرفقاء الأربعة ومعهم 17 شخصا آخر، منهم طفلتان صغيرتان في 4 و5 سنوات وعلي بوبول الصديق الحميم لعمر، وبعد التفجير انتقل الوالدان في ذعر إلى عين المكان ورائحة الجثث تملأ المكان وألسنة النيران تأكلها وتبكي الجدة لهؤلاء الشهداء الذين طالما دللتهم، فأي طعم سيكون لهذه الحياة، وبعدها أجبر العدو سكان الحي على استخراج الجثث والتعرف عليها للتأكّد من وفاتها، وكلّف والد عمر بالمهمة والتعرّف على جثة ابنه ممزقة مفحمة وكانت أصابع رجليه ملتصقة.
تضمّن الكتاب العديد من الصور الفوتوغرافية النادرة الخاصة بالشهيد عمر مع عائلته وإخوته وكذا أفراد عائلته، منهم الأب والأم والجدة والجد والإخوة وكذا صور لرموز العمل الفدائي بالقصبة وقصاصات بعض الجرائد الاستعمارية التي تناولت الجريمة.
تبقى مثل هذه الكتابات مطلوبة لتوثيق نضال أبطال كان لهم حضورهم في ساحة الفداء وفضلهم في استرجاع حرية الجزائر.