الفنانان حدحود ودوكمان يعرضان برواق "عسلة"

تناج فلسفي متعدّد الألوان

تناج فلسفي متعدّد الألوان
  • القراءات: 1104
مريم. ن مريم. ن
يطل الفنانان لمين دوكمان وطاهر حدحود عبر معرضهما المشترك برواق "عسله حسين"، ليعلنا عن آخر إبداعاتهما التي جسدها الأسلوب التجريدي بتقنيات مختلطة، تعكس مدى البحث والتمكّن من صياغة الألوان المتفجرة بالأحاسيس والانفعالات وبكل ما له علاقة بالرقي والفن.
يوظف الفنان حدحود الألوان الداكنة ببراعة ويحاول أن يجعل منها الناطق الرسمي له،  من خلال إعطائها متّسعا من الظهور المطلق على مساحة اللوحة، لتتفوق بذلك على الأشكال والخطوط وتتجاوزها لتتجلى في صورة بقع أو تموجات أو نقاط متناثرة وغيرها، ويستعين هذا الفنان المحترف بالتقنية المختلطة التي تمكّنه من تجسيد الصور التي يريدها أن تبرز أكثر، والتي هي في الأساس محور اللوحة.
من ضمن ما قدم حدحود، لوحة بعنوان "جراح"، وهي كبقية لوحاته متميّزة بألوانها الداكنة، بها فجوات تشبه الممرات المفتوحة، كأنها مجاري سيول طبيعية تتوسط اللوحة وتتجه إلى العمق، كدليل على عمق الجراح التي تجري في أعماق الإنسان مجرى الدم، لا يستطيع صاحبها التخلص من آلامها مهما كانت عميقة.
على عكس الآلام، يظهر الأمل والحلم في لوحة مجاورة بعنوان "نوافذ الحلم"، وهي ذات ألوان صاخبة وزاهية يتخلّلها النور المتغلغل بين اللون والآخر، أي بين الأصفر والبنفسجي والأحمر، شكّلت فوقها مستطيلات عمودية ملونة ذات أحجام متفاوتة مفتوحة على الأمل وعلى المستقبل الأفضل الذي سيحمل كل جميل.
لوحة "تقاليد" كانت أكثر وقارا وهدوءا، تقرأ تاريخا ضاربا في الأصالة، حاول الفنان استحضاره في قالب فني متميّز بألوانه الهادئة، خاصة البنفسجي المزهر والأرجواني الفاتح والبني الترابي والأصفر، كلها تتقاسم بشكل عمودي مائل اللوحة وتبدو تحتها آثار رموز ثقافية قديمة عادة ما توجد في الحلي والزرابي، وتبرز الجزائر بلون البحر في لوحة "الجزائر" تبدو كخريطة زرقاء يقطعها الطريق السيار وسطا، ليعبر مساحاتها الشاسعة.
يصل الفنان بالزائر إلى لوحة "العنف ضد المرأة"، محاولا شده إلى هذا المخلوق الضعيف الأعزل الذي يحارب وحده مجتمعا لا يرحم ويبرز في مركز اللوحة وجه امرأة شابة بالتصوير الفوتوغرافي، تتهاطل عليها الألوان الداكنة كالحمم الغزيرة ولا تملك إلاّ أن تدفعه بيدها عن وجهها.
تتوالى لوحات هذا الفنان، منها مثلا لوحة بعنوان "سلاح الفن"، يبرز من خلالها القوة الناعمة للفن، التي تؤثّر في الآخر وتغيّره، وفيها يستعين بشتى الأشكال والقطع والمربعات بعضها أضيف للوحة بخطوط وزخات تشبه لون البارود، ولوحة "عبور" هي طرق شتى متداخلة ومختلفة الألوان تعطي فرصة الاختيار لأي عابر أراد المرور.
ومن اللوحات أيضا؛ "حرية طفل" يظهر فيها طفل يمدّ ذراعيه إلى فضاء ممتد لا نهاية له ويكسر في حركته كل الحواجز المفتعلة، وفي لوحة "غيرة"، يسود الأصفر رمز هذا الإحساس المتوغل في كل مخلوق بالفطرة ويتجلى من خلال فجوات وأعمدة متقابلة كأنها تحرس بعضها البعض، من خلال عينين كبيرتين في الوسط، لا تغفل، وتشبه "انتقال" لوحة "العبور" وهي عبارة عن قطع هندسية ملوّنة تتيح العبور بين الطرق والروافد.
الفنان لمين دوكمان لم يكن أقل حضورا بتوقيعاته الفنية الملونة ذات الوشوشة الهادئة والمنفعلة معا، وذات الدلالات الفلسفية العميقة المختفية بين الخيوط الرفيعة للريشة الجريئة والمعبّرة عن أحداث آنية عاشها الفنان ومجتمعه في لحظة ما، ويرسم هذا الفنان مثلما يتنفس ليطرح كلّ ما بداخله من هواجس وانفعالات وأفكار وضغوط الحياة، ليصيب بها الآخرين من خلال عدوى فنية جميلة.
كما يستحضر الفنان في أعماله؛ التراث الذي تشبع بقيمه في عائلته البوسعادية، بالتالي يستعين بالتاريخ سواء عن طريق الأمازيغ أو الفراعنة أو من بابل والبيزنطيين وغيرهم، أما الألوان، فيفضل منها الزاهية والحية الطبيعية التي تعكس الحياة وحركتها، والتي تحاول البحث عن الإنسانية بداخل كل واحد فينا مهما كانت طبيعته ودرجة إحساسه، كما يحاول أحيانا أن يرسم بعض الرموز والرسومات التاريخية الموجودة على الآثار بطريقة مختلفة وبأكثر حيوية.
يقدّم هذا الفنان فرصة السفر عبر الأشكال والزهور والأزمنة بأسلوب رقيق وانسيابي يبعث على الأمل حتى في اللوحات ذات الخطر، الملطخة بالأحمر التي تسجّل فترات تاريخية ومواقف خطرة، وفيما يتعلّق بالسفر دائما، يختار الفنان الأسلوب الانطباعي ليسافر بالمتفرّج بعيدا نحو الأحلام والسعادة حتى في لوحاته التي تسجّل مراحل الخطر التي يعرضها ويحاول أن يبعد هذا المتفرج عن خطرها وآلامها.
لوحة "الممشى الحجري" ذات القطع الملونة التي تشبه قطع الحجر، تنير بأضوائها الدروب الصعبة وفي لوحة "قوى" تظهر قوة فوضى الألوان والأشياء التي تتكامل وتتناغم رغم اختلافها في صورة فنية جميلة، وتظهر "اليد الزرقاء" اليد (الخامسة) أكثر من مرة في اللوحة وفي مختلف الاتجاهات، تبسط ثقلها على الألوان والأشكال فارضة نفسها كسلطة فعلية قائمة.
في "تواطؤ الخريف"، تبرز الألوان الخريفية التي تشبه ألوان الأوراق المتساقطة، وفي المركز تظهر امرأة بوجهها وسط الزهور وهي نائمة كدليل على أنّ الطبيعة ستدخل في سبات عميق إلى غاية الربيع، وتظهر "يفكر فيها" عاشقا ولهانا مشتّت الفكر، يركز الفنان أكثر على دماغه المهموم المشتت عبر أركان اللوحة.
يستحضر دوكمان الماضي من خلال "الجيران" في حي القصبة الذي كل المباني فيه عبارة عن مربعات متفاوتة ومختلفة الألوان، يلعب فيه الأطفال الكرة بحرية مطلقة في كلّ الاتجاهات الممكنة، علما أنّ حضور الطفل اللاعب يطغى على العمران، كذلك الحال في لوحة "على الشرفة" التي بها العديد من النسوة غريبات الأطوار والأشكال، بعضهن أكبر من الشرفة، تحمل أحيانا رأس طاووس تحاول إظهار ما أمكن من ألوان وأنوثة مرتبطة بتراث الأساطير.