"بهية" لمرزاق بقطاش

ذكريات من طيف الوجع وتأمّلات من الزمن الجميل

ذكريات من طيف الوجع وتأمّلات من الزمن الجميل
  • القراءات: 1151
مريم. ن مريم. ن

كعادته يغوص بقطاش عبر مختلف إبداعاته في مكنونات النفس وفي تفاصيل الحياة البسيطة، حيث يلتفت إلى مجريات الزمن وإلى أحوال الناس، فيرسم بأيديهم بورتريهات تعكس وجوههم وملامح آلامهم وأحلامهم، مع الجهر بكلّ ما هو إحساس وشجن وذكريات. ويبتعد العمل عن الضجيج، ليتأمل بهدوء في حياة تتحوّل بدون استئذان، وتجر معها سنين مزدحمة بالأحداث والحكايا، ليقف موقف الكاميرا الخفية التي تصوّر خلسة وبصدق تام، شخصيات وهي تؤدي أدوارا رُسمت لها في هذه الحياة، أو وهي تكتشف بداخلها أعماقا لا تعرف عنها شيئا مع تسجيل نبرة من الشجن ومن الحكمة التي تكلّل مطاف منعرجات مرّت عليها الحياة وتركت فيها ما تركت.

تتضمن المجموعة الصادرة عن "الأمل" للطباعة، النشر والتوزيع، 20 قصة مختلفة المكان والزمان لكنها مشتركة في قضايا الإنسان، تُطرح بهدوء وبحكمة كاتب حاول أن يرصّعها بأحجار ظلت في قاع الذاكرة، لتبوح بعد سنين العمر الطويلة بما كان هنا وهناك. والبداية تصدّرتها السيدة "بهية"، التي أرسلت بذكرياتها من تحت تراب قبرها كي لا تتوقّف عن لوم الآخر، الذي ربما كان سببا في بعض مطبّات دربها الوعر.

تمثّل الـ35 سنة حياة بهية الزوجية التي ملأتها بصوتها الذي تحاول أن تسبق به الوجود بعدما نسيت أشياء جميلة كانت تطالب بها في بداية العمر، ومع السنين خفَت هذا الصوت، وحلّت محله نبرة يأس وإصرار على مغادرة الدنيا في أسرع وقت ممكن، ولم يتحقّق لبهية ذات الجمال الباهت شيء من أشياء حياتها حتى من باقة الورد التي حلمت أن تزيّن موكب عرسها، لينتهي بها المطاف وهي جثة هامدة تُنقل إلى المقبرة في شاحنة سردين.. فكم هي مجحفة الحياة في حقها!

حزن الزوج وأمه والأولاد الستة، وتبدّل لون جدران البيت التي ألفت صوت بهية وهي تعلّق على كلّ شيء وتنتقد كلّ شيء، لتلفت الأنظار إلى مطالبها وملاحظاتها التي يستجيب لها الكلّ ويحاول تداركها، وفي مقدّمتهم الزوج، الذي تعلّم، بسرعة بعدها، لغة الحزن، فهذا الرجل المرهف الحس الذي لم يكن من السهل عليه أن يرى مآسي الغير، ينفجر في كلّ مرة دموعا.

ظلّ الزوج وفيا لذكرياته، رافضا أي امرأة أخرى. وبعد وصف هذا الانهيار يدور شريط الذكريات، ليستعرض جانبا من حياة بهية، التي بدأت حين أصيبت بصدمة نفسية حادة، جعلت حماتها تظن بأنّ الأمر متعلّق بمسألة الجن، لتستعين بمختلف المعتقدات المعروفة التي تُبعد هذا الشر، منها القطران وذبح الدجاج وما شابه ذلك، بل وكانت العجوز تحاول مخاطبة الجن وهي تدور حول زوجة ابنها حاملة المكنسة، لكن بهية لم ترتح إلا عند دخولها مرتين إلى المستشفى وتلقّيها صدمات كهربائية، وفي المرة الأخيرة ساءت حالها وظلّت بناتها وزوجها ملازمين لها.

يسرد الكاتب تفاصيل نقل الجثمان لتبدو كالمشهد السينمائي مع تسليط الضوء على حالة المشيّعيين من الأهل والمعارف. وبعد مراسيم الجنازة استسلم الزوج للذكريات ابتداء من باقة الورد وحتى شاحنة السردين.

في قصة "ذلك الذي فقد البحر" يرسم القاص لقارئه شخصية البحار الذي قضى سنين عمره بين البحر والميناء؛ تماما كما تفعل الطيور، فمع كلّ طلعة يوم يبدأ سفر جديد يشق أمواج البحر؛ إنّها حياة عمي الحسين، فمنذ أن بدأ العمل سنة 1922 ورث معه عادات البحارة الأوائل الذين سكنوا أميرالية الجزائر، وكانوا يتجمعون أيضا في الحديقة المقابلة التي التزم هو بالجلوس فيها مع زملائه حتى بعد مغادرته البحر؛ وكأنّها كانت حكرا لكلّ من له علاقة بالبحر من صيادين وطيور مهاجرة، وكم كان المنظر رائعا وهو يطلّ على السفن القادمة أو الراحلة للتجارة أو للدفاع عن الجزائر المحروسة أو لخدمة حجاج البيت الحرام! كان ذلك من زمن جميل؛ أي منذ السفن الشراعية وحتى استحداث السفن البخارية.

رغم سن الـ70 لم يغادر البحّار السفن، على الأقل قاربه بالمرسى، وكان يتّصل به مع السفن الأجنبية لأغراض تجارية، كان يتحدّث بعدّة لغات، وله علاقة مع بحّارة من مختلف موانئ العالم عبر 50 سنة من العمل. تأثّر لفقدان والدته حتى وهو متقدّم في السن. كما تزوّج مرتين بعد الـ60، وسرعان ما طلق؛ إذ كيف له أن يعرف الاستقرار وهو مرتبط بالبحر والسفر والقفز من سفينة إلى أخرى؟!

ميزة هذا الجزائري البحّار أنه إنساني، يوزّع ما يجنيه على غيره، وكانت تنبّهه والدته بالقول: "يدك مثقوبة يا الحسين". وميزته الأخرى كانت عشقه لكلب البحر، حيث يطلبه من جامع اليهود حتى وهو متعتع بالسكر، لينظفّه بيده، ثم يطبخه بطريقة لا يعرفها إلاّ هو، ويكون حينها ينصت للأخبار من الإذاعات البريطانية والإنجليزية ليتابع جديد الحروب.

ظلّ يضرب محيطات وبحار الدنيا طولا وعرضا، وقد نجا من موت محقّق سنة 1953، لكن البحر المفضّل عنده. والدته التي يخاطبها دوما بالأمازيغية يعود إليها متودّدا ويعاملها كما البحر في حال الهدوء والهيجان، كان يحبها أكثر من أيّ شيء حتى ولو كان البحر بعينه، لذلك لم يجرؤ على رأيتها ميتة وهو الذي جابه العواصف ولسعات الشمس وسم الجليد وحتى لحظة الإعدام التي نجا منها سنة 1940 بعدما ضرب محافظ شرطة فرنسي، لقد هدّه رحيل أمه ولم يهدّه البحر.  

من حكايات البحر إلى حكايات العشق ولهفة المحبين الذين طلواّ عبر "لقاء الأحبة"، غير أنّ الصورة لم تكن بالرومانسية التي ارتبطت بمثل هاته القصص؛ إذ بقيت نبرة الشجن راسخة تحفها الذكريات ومرارة السنين التي لم ترحم، إنّها حكاية فاطمة التي فرقت الحياة بينها وبين حبيبها، لتراه بعد سنين صدفة في إحدى الصيدليات وقد تحوّل إلى شبه ذكرى، لم يبق منه لحم يمسك هيكله الهضمي اللهم إلا ّشاربيه الأسودين مثل قرصان قديم، وهنا يسهب الكاتب في رصد تفاصيل اللقاء والمكان، ليجعل القارئ يرى بأم عينيه ما جرى بالضبط حتى على تقاسيم الوجه وخلجات الأحاسيس، ثم يسرد الكاتب أيام العشيقين الجميلة حين كانا يلتقيان وهما في أبهى حلة، خاصة أنّ العاشق كان مغنيا مشهورا في الشعبي، وغنى عن صديقه الذي اختطفه المظليون، أما هي فكانت تشقّ طريقها في التمثيل. غادرا الحي معا بعد الاستقلال ونسي الناس فنهما، لتنتهي الحكاية بموت العاشق في اليوم الموالي للقاء.

يعود الحزن والشجن في "وللحزن شكل آخر"، ليسرد الكاتب ملامح وجه صبوح هوليوودي أكله المرض، وليكتشف أنّ الموت غيّب هذه الفتاة التي كانت أخته، والتي بقيت محفورة في ذاكرته لسنين طويلة، وقد حزّ في نفس الكاتب حال شقيقته المؤرخة المعروفة نتيجة معاناتها وعذابها بسبب هذا الفراق المر، وهنا يستعرض الكاتب بقطاش تجربة عائلته مع الحزن ابتداء من والدته التي عانت منذ زواجها من فقدان بعض أفراد العائلة، وبالتالي كانت الأقدر على المواساة لما تكبدته من ألم، فواست ابنتها، ثم وقفت معه حين تلقّى الرصاصة في رأسه زمن العشرية السوداء، لا أعادها الله علينا.

وعلى الرغم من الجنائز فإنّ الكتاب لا يخلو من بعض الصور الوردية التي تحمل عبق ذكريات طفولة الكاتب، منها كلامه في "سيدة من ذلك الزمن الجميل" عن عجوز في الـ75 سنة فرنسية الأصل عاشت لفترة ببلاد القبائل، عملت مساعدة اجتماعية وراهبة، وأدارت برنامجا إذاعيا بالقناة الثانية عرفها وهو طفل توخز في ذراعه الصغير تلقيح بداية التمدرس سنة 1951، ثم تصبح صديقة العائلة وكانت تتنبأ له بالرجولة والفتوة والقوة، ودّعته ذات يوم بقبلة على جبينه، لتلتحق بالدير كي لا ترى ما لا تحب أن تراه، وكان ذلك في عزّ الثورة.

عموما، فالقارئ له الحرية في أن يصول ويجول في الذكريات التي هي جزء من ماض مشترك، وذلك عبر 20 قصة قصيرة. وتصدّرت حكاية المكان والزمان والإنسان هذه المجموعة بأسلوب راق وبسيط، كان لإيحاء المعنى فيه الدور الكبير، وكانت الشخصيات ورغم بعض مأساويتها، محبوبة للقارئ بعدما اطلع على ما تخفيه من روح وقيم ومن ارتباط بالآخر وبالمكان، خاصة بحي القصبة العريق.

الكتاب أيضا باكورة تجربة حياة، وهي سمة الكبار من المبدعين الذي يوثّقون مسارات مهمة في تاريخهم الشخصي والاجتماعي، لتبقى شاهدا على عصر حصلت فيها متغيّرات عديدة، كان من ضمن ما تغيّر فيها الإنسان، لتبقى الحكاية مدفونة في أعماقه وفي بقايا الجدران المهترئة وفي أماكن لم يطلها النسيان ولا التشويه.. والدموع وحدها قد تعبّر عن الحنين لماض ولّى وترك بعده من يقرأ الحكاية من البداية.